كل مرات غيابي عن الوطن، تحت وطأة ظروف ترغمني، كانت هناك ظاهرة غريبة تحدث.. فجأة أحس و كأن أذانا شاحبا يأتيني من بعيد، ولم يكن ذلك ممكنا بأي حال من الأحوال كيف يكون هناك صوت للأذان في قلب مانهاتن، بنيويورك، أو السان جيرمان بباريس؟ تصاعدت المسألة حتي شكلت ظاهرة أخافتني خاصة لما أضيف إليها صوت عبد الوهاب.. كنت أستلقي مغمضة العينين، لساعات طويلة جدا، ما بين يقظة ونوم، ودواء يسري عبر حقنة في شراييني وفجأة أفتح عينيّ وأنتبه علي صوته، عبد الوهاب لا يمكن ان أخطئه وكأنه ينبعث من جهة لا أعرف نقطة ارتكازها ولا إلي أين اتجاهها!... و كان حضوره وتغلغله، في بعض الأحيان، يأتي مصحوبا، بحزمة من الروائح، التي لا أستطيع أن أفصلها أو التي تتتالي، في صورة موجات، أو هبات، خفيفة.. أستغرب كونها لا تنتمي لا الي مكان واحد ولا لحظة زمانية بعينها.. لكن قاسمها المشترك، هو الفتي وتعودي واستكانتي لها.. كان صوت عبد الوهاب، يتسرب وينتشر ويغلب ويغالب مسات خوف وغربة ويدفعني لأغمض عيني علي ما يحمله الي، و كأني أقبض وأحكم القبض علي مفردات عالمي وألفتي قبل أن أتوه عنها أو تضيع مني... يكفي أن يأتي صوت محمد عبد الوهاب من أي جهة، في أغلب الأحوال، يكون استحضاره من داخلي، يملأ روحي، لأستشعر رغبة عارمة، اني أريد العودة الي بيتي.. وساعات صباحي وشارعي.. أي سيارتي أصحب أولادي فيها الي المدرسة وبرنامج سماعي اليومي يتوسطه صوت عبد الوهاب، بعد أن أودعهما وأطمئن، وآخذ الطريق منفردة إلا من صوته: قلبي. بيقولي كلام.. وأنت بتقولي كلام.. كل ده.. كان ليه.. أنا اللي طول عمري ما حبيت... والأحب دوما يا مسافر وحدك وفايتني.. في ساعات لم يكن هناك إلا صمت غويط يحيط، كان مؤنسي هو عبد الوهاب، مبدد خوفي، بالحان لا يسمعها غيري وبلغة تخصني، وبغير حاجة الي سماعات، لا يستقيم ذبذباتها وأجهزة طبية دقيقة.. كانت ألحانه تطغي.. تبتلع، تغسل، تطوي وقتا ثقيلا مرغمة علي الاستسلام إليه.. كنت أمارس نوعا من تدريبات الذاكرة، بيني وبين نفسي.. أستدعي لحنا، له بالطبع، أعود الي الكلمات، افتش عن أقوي ما ارتبط بلحن عبد الوهاب في حياتي.. أفتش عن الذكري أو ألملم شذرات وأعيد لضمها، عقدا، تترابط حباته، خشية انفراطها.. عبد الوهاب، قرين الحنين لمستقري.. وقبلها علامة، رمز، قدرة غير محدودة علي ملامسة الحزن والفرح.. عبد الوهاب، لا يهم أين يضعه المتخصصون، المهم أنه بالنسبة الي، الذي استطاع أن يمسك بإحكام، زاوية فرحي والحزن، الشوق واللوم.... عتاب وحنين... عبد الوهاب الذي يسعد القلب... عبد الوهاب بعض من إرث، انتقل الي ممزوجا بحب عميق، من اب كان يراه، ملازما للشاعر الأمير الذي ليس غيره يستحق الإمارة أحمد شوقي بك.. وقد كان هو شخصيا من الحواريين الملازمين لأحمد شوقي بك.. وإن كنت علي غير يقين، إن الإرث سوف يمتد أو يتناثر من بعد رماد عمري علمني أبي حب عبد الوهاب.. بالنسبة إليه كان تتمة لحب أكبر، لأحمد شوقى، وتلك حكاية أخري. لمزيد من مقالات ◀ ماجدة الجندى