حملة لتوفير أجهزة كمبيوتر.. دعوات لتأهيل المدارس لتعليم التكنولوجيا | تفاصيل    تراجعت على العربات وبالمحال الصغيرة.. مساعٍ حكومية لخفض أسعار سندوتشات الفول والطعمية    وفقا لوزارة التخطيط.. «صيدلة كفر الشيخ» تحصد المركز الأول في التميز الإداري    الجيش الأوكراني: 96 اشتباكا قتاليا ضد القوات الروسية في يوم واحد    طائرات جيش الاحتلال تشن غارات جوية على بلدة الخيام في لبنان    3 ملايين دولار سددها الزمالك غرامات بقضايا.. عضو مجلس الإدارة يوضح|فيديو    كرة سلة - ال11 على التوالي.. الجندي يخطف ل الأهلي التأهل لنهائي الكأس أمام الجزيرة    المقاولون العرب يضمن بقاءه في الدوري الممتاز لكرة القدم النسائية بعد فوزه على سموحة بثلاثية    تصريح مثير للجدل من نجم آرسنال عن ليفربول    السجن 15 سنة لسائق ضبط بحوزته 120 طربة حشيش في الإسكندرية    إصابة أب ونجله سقطا داخل بالوعة صرف صحي بالعياط    خناقة شوارع بين طلاب وبلطجية داخل مدرسة بالهرم في الجيزة |شاهد    برومو حلقة ياسمين عبدالعزيز مع "صاحبة السعادة" تريند رقم واحد على يوتيوب    رئيس وزراء بيلاروسيا يزور متحف الحضارة وأهرامات الجيزة    بفستان سواريه.. زوجة ماجد المصري تستعرض جمالها بإطلالة أنيقة عبر إنستجرام|شاهد    ما حكم الكسب من بيع التدخين؟.. أزهري يجيب    الصحة: فائدة اللقاح ضد كورونا أعلى بكثير من مخاطره |فيديو    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    بديل اليمون في الصيف.. طريقة عمل عصير برتقال بالنعناع    سبب غياب طارق مصطفى عن مران البنك الأهلي قبل مواجهة الزمالك    شيحة: مصر قادرة على دفع الأطراف في غزة واسرائيل للوصول إلى هدنة    صحة الشيوخ توصي بتلبية احتياجات المستشفيات الجامعية من المستهلكات والمستلزمات الطبية    رئيس جهاز الشروق يقود حملة مكبرة ويحرر 12 محضر إشغالات    أمين عام الجامعة العربية ينوه بالتكامل الاقتصادي والتاريخي بين المنطقة العربية ودول آسيا الوسطى وأذربيجان    سفيرة مصر بكمبوديا تقدم أوراق اعتمادها للملك نوردوم سيهانوم    مسقط تستضيف الدورة 15 من مهرجان المسرح العربي    فيلم المتنافسون يزيح حرب أهلية من صدارة إيرادات السينما العالمية    إسرائيل تهدد ب«احتلال مناطق واسعة» في جنوب لبنان    «تحيا مصر» يوضح تفاصيل إطلاق القافلة الخامسة لدعم الأشقاء الفلسطينيين في غزة    وزير الرياضة يتابع مستجدات سير الأعمال الجارية لإنشاء استاد بورسعيد الجديد    الاتحاد الأوروبي يحيي الذكرى ال20 للتوسع شرقا مع استمرار حرب أوكرانيا    مقتل 6 أشخاص في هجوم على مسجد غربي أفغانستان    بالفيديو.. خالد الجندي: القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا أنواره الساطعات على القلب    دعاء ياسين: أحمد السقا ممثل محترف وطموحاتي في التمثيل لا حدود لها    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط    جامعة طنطا تُناقش أعداد الطلاب المقبولين بالكليات النظرية    الآن داخل المملكة العربية السعودية.. سيارة شانجان (الأسعار والأنواع والمميزات)    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    هيئة الرقابة النووية والإشعاعية تجتاز المراجعة السنوية الخارجية لشهادة الايزو 9001    مصرع طفل وإصابة آخر سقطا من أعلى شجرة التوت بالسنطة    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: القطاع الخاص لعب دورا فعالا في أزمة كورونا    وزير الأوقاف : 17 سيدة على رأس العمل ما بين وكيل وزارة ومدير عام بالوزارة منهن 4 حاصلات على الدكتوراة    «التنمية المحلية»: فتح باب التصالح في مخالفات البناء الثلاثاء المقبل    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    رموه من سطح بناية..الجيش الإسرائيلي يقتل شابا فلسطينيا في الخليل    تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات بحق العمال منذ بداية 2023 وحتى فبراير 2024    مجهولون يلقون حقيبة فئران داخل اعتصام دعم غزة بجامعة كاليفورنيا (فيديو)    حملات مكثفة بأحياء الإسكندرية لضبط السلع الفاسدة وإزالة الإشغالات    «الداخلية»: تحرير 495 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1433 رخصة خلال 24 ساعة    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    عبدالجليل: سامسون لا يصلح للزمالك.. ووسام أبوعلي أثبت جدارته مع الأهلي    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفكرون كبار وقعوا فى غرام النازية والفاشية..
فضائح ثقافية فى الجانب الآخر من العالم
نشر في الأهرام اليومي يوم 22 - 03 - 2019

* كلود ليفى شتراوس: حقوق الإنسان ترتبط بالمذهب الإنسانى الغربى وغير مقبولة أخلاقيا

* نيتشه فى خطاب إلى أمه: ابنك أصبح مشهورا الآن وهذه أعجب نكتة!

* على غلاف مجلة «دير شبيجل» صورتان لنيتشه وهتلر وعنوان مستفز: «هتلر ارتكب ونيتشه فكر»

* يونج: هتلر ينتمى إلى فئة رجال الطب الروحانى الصادق.. إنه نصف رب أو أسطورة!
يظل الدكتور محمد عنانى أحد كبار هذا الوطن، أحد الوجوه المشرقة، التى تمنح ضياء عينيها للآخرين، دون انتظار «جزاء أو شكور» فهذا الرجل الذى يمتلك حيوية شاب فى الثلاثين من العمر، لا يكف عن إدهاشنا بقدرته على مواصلة العمل، ليقدم لنا الترجمة تلو الأخرى، وآخرها ما أصدره عن المركز القومى للترجمة، تحت عنوان «غواية اللامعقول قصة الغرام الفكرى بالفاشية من نيتشه إلى ما بعد الحداثة» للكاتب ريتشارد وولين.
..............................
الكتاب يتناول بعض الفضائح الخفية للمفكرين الكبار، إذ يعيد فحص العلاقة التى يختلط فيها اللون الأسود باللون الأبيض بين المثقفين والسياسات اليمينية، فى عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، وما ترتب على هذه العلاقة من دلالات سياسية فى الوقت الحاضر، كان بعض هؤلاء المفكرين ينتمى إلى الفاشية، رغم أنها كانت ظاهرة مناهضة للفكر، ورغم أن جاذبيتها كانت مقصورة على المجرمين والبلطجية.
نلتقى أسماء كبار المفكرين والفلاسفة، الذين ينتمون إلى «ما بعد الحداثة» أسماء كانت موضوعا لخناقات نقادنا الكبار، أولئك الذين عاشوا عالة على أفكارهم فترة طويلة، وكانوا يرددون أسماءهم، فى الوقت الذى سقطت فيه مقولاتهم فى الغرب، بل إن نقادنا هؤلاء دخلوا فى «خناقات» فيما بينهم، حول من كان له السبق فى إدخال «البنيوية»و»ما بعد الحداثة» فى المتن النقدى العربى.
نحن لا نمتلك جرأة أن نصدر مثل هذا الكتاب، وهنا أتذكر أن روائيا كبيرا راحلا كان قد كتب مقالا، من وحى مروره فى شارع الشيخ ريحان، ورأى غرفة واحدة مضيئة فى المبنى، كان يعرفها بالتأكيد، حيث يقبع أرشيف وزارة الداخلية، وتساءل هذا الروائى عن الأسرار التى يخفيها هذا المبنى، عن المثقفين الذين تعاونوا مع «أمن الدولة» والمفارقة أن كلاما كثيرا كان يتردد حول تعاون هذا الروائى مع الأمن.
كان عدد كبير من قادة الفكر الأوروبى يرفعون أصواتهم الصاخبة، ابتغاء الانضمام إلى الزمرة السياسية الفاشية، بعد أن انحدرت الديمقراطية فى عقب الحرب العالمية الأولى والكساد الاقتصادى عام 1929 فبلغت دركا أسفل غير مسبوق، وهنا يقول المؤلف: «إذا عددنا الأدباء الفاشيين والمتعاطفين فلسفيا مع الفاشية، فإننا لم نشر إلا إلى قمة جبل الجليد الضخم الطافى فى الماء، فقائمتنا تتضمن إرنست يونجر وجوتفريد بن ومارتن هايدجر وكارل شميت وروير براسيلاك وبيير دريولا روشيل ولويس فريدنان سيلين وبول دى مان وعزرا باوند وجيوفانى جينتيلة وفيليبو مارينيتى وجابرييل دانونزيو ووليم بطلر ييتس وويندام لويس».
يوضح الكتاب أن الرابطة التاريخية بين المثقفين واليمين المتطرف، أدت إلى تشكيل الخطاب السياسى المعاصر من عدة جوانب، ففى عقد التسعينيات فاز بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة، بإقبال شديد من الناخبين الأوروبيين، مثل «حزب الحرية» الذى كان يترأسه «يورج هايدر» فى النمسا، والجبهة الوطنية برئاسة «جان مارى لوبان» فى فرنسا، وتقدمت أيضا بعض الأحزاب السياسية ذات الميول العنصرية المماثلة، بخطوات كبيرة، فى بلجيكا وعدد من البلدان فى أوروبا الشرقية، فكان من المحتوم أن يضطر المعلقون إلى التساؤل، عما إذا كانت أشباح الفاشية قد بدأت تعود خلسة.
على الرغم من أن هذا الكتاب يفحص الرابطة ما بين المثقفين والفاشية، فإن المؤلف لا يريد أن يحملهم ذنب ارتباطهم بها، فإذا كانت الفاشية على مدى التاريخ، تغازل قيم الدولة القوية، فإن الفكر السياسى لما بعد الحداثة أقرب إلى الأخذ بالفوضى الفلسفية، كما أن عداوة «ما بعد الحداثة» للعقل وللحقيقة، تصبح فى لحظة معينة عاجزة فكريا، وتؤدى إلى العجز السياسى، فكثيرا ما تتطرف فى نزع الثقة من المنطق، إلى الحد الذى يصيب ممارسيها بالدوار، والعجز عن الدفاع عن أنفسهم أخلاقيا وسياسيا.
الرياضة الدموية
هناك فصل غريب من فصول تاريخ الأفكار، نرى فيه الأعداء المحدثين للفلاسفة الفرنسيين مثل نيتشه وهايدجر، وقد أصبحوا الأصنام الفكرية المعبودة فى فرنسا، فى الفترة التالية للحرب العالمية الثانية، خصوصا فى نظر أرباب «ما بعد البنيوية» مثل جاك دريدا وميشيل فوكو وجيل دلوز، ومن المفارقات أن اللامبالاة الساخرة بالعقل والديمقراطية، التى كانت يوما من خصائص الفكر الرجعى، أصبحت الزاد الذى يملأ جعبة اليسار بعد الحداثى.
على نحو ما كانت ألمانيا، على الرغم من خسارتها فى ميدان القتال، قد انتصرت فى قاعات البحث الأكاديمى، وفى أماكن بيع الكتب، وفى المقاهى، فى الحى اللاتينى، وفى أثناء موجة الهجوم على الحضارة الغربية، بأسلوب الفيلسوف الألمانى شبنجلر، وهو الهجوم الذى كان يقوده كبار ممثلى اليمين الفكرى الألمانى يوما ما، وقد عبرت هذه الهجمة نهر الراين، ووجدت تأييدا جديدا لها.
كان نيتشه يعتبر الفيلسوف الرسمى للنظام النازى، ويتمتع من ثم بقداسة خاصة، كما كان هايدجر لفترة محدودة أشد الفلاسفة الناطقين باسم النظام صراحة، وكانت «مناهضة التنوير» أفضل ما يعبر عن حالة التشاؤم الثقافى، التى سادت بين المثقفين، خلال الفترة التى أعقبت الحرب، وما زاد الطين بلة، أن الهجوم الجديد على الفلسفة الفرنسية، انطلق من وطن التنوير نفسه.
تطور الهجوم على التنوير، فأصبح يشبه الرياضة الدموية الفكرية على حد تعبير المؤلف التى توحدت فيها عناصر من اليمين واليسار فى قضية مشتركة، وهكذا فإنه من الغرائب أن حجج مناهضة التنوير، التى كانت من الامتيازات الخاصة لليمين السياسى، قد كتب لها عمر جديد بين ممثلى اليسار الثقافى، وفى هذا الصدد فإن بعض أنصار «ما بعد الحداثة» يستندون بفخر إلى تراث مناهضة التنوير، وتقول حجتهم إنه ما دامت الديمقراطية مسئولة فى الماضى والحاضر عن شرور سياسية كثيرة، ومادام انتقاد الديمقراطية الحديثة قد بدأ بمناهضى الفلاسفة الفرنسيين، فلماذا لا نحشد حججهم القوية باسم البحث النقدى السياسى بعد الحداثى؟
كان الهجوم على المذهب الإنسانى من خصائص المذهب البنيوى الفرنسى، وكان ذلك التوجه هو الذى مهد الطريق، من عدة زوايا، لما تلاه من مبادئ «ما بعد البنيوية» ذات الطابع الراديكالى الأعمق، وقد عبر أحد النقاد تعبيرا مناسبا عما حدث قائلا إن: «البنيوية كانت حركة قدمت الاتجاه العكسى إلى حد كبير لاحتفاء القرن الثامن عشر بالعقل، باعتباره مذهب أرباب التنوير الفرنسيين» ووصل الأمر بكلود ليفى شتراوس إلى أنه كان يعتبر المذهب الإنسانى فى الغرب مسئولا عن فظائع القرن العشرين، مثل الحرب الشاملة والإبادة الجماعية والاستعمار والتهديد بالفناء فى حرب نووية، وكما قال فى مقابلة شخصية أجريت معه عام 1979: «إن كل المآسى التى عشناها أولا مع الاستعمار، ثم مع الفاشية، وأخيرا مع معسكرات الاعتقال، كلها تشكلت، لا من باب المعارضة أو التناقض مع ما يسمى المذهب الإنسانى، بل إننى أكاد أقول إنها كانت استمرارا طبيعيا له».
كان ليفى شتراوس يرى أن حقوق الإنسان ترتبط ارتباطا، لا تنفصم عراه، بأيديولوجيا المذهب الإنسانى الغربى، ومن ثم فهى غير مقبولة أخلاقيا، وكان يعتنق فكرة النسبية الثقافية قائلا: «إن كل ثقافة لها خيارها، الذى لابد من احترامه» كما كان يسوق حججا عالية النبرة، ضد التواصل عبر الثقافات، قائلا إن مثل هذا الحظر هو الطريق الوحيدة، للحفاظ على تعددية الثقافات الوطنية وتنوعها، وكانت محاذيره ضد الاختلاط الثقافى تثير فى الذهن كما يشير المؤلف الموقف الذى اتخذه «أبو العنصرية الأوروبية» الكونت «أرتور دى جوينو» ففى كتابه «أصول عدم المساواة بين الأجناس البشرية» يزعم أن تهجين الأجناس البشرية، هو السبب الجذرى للتدهور الأوروبى.
هناك علاقة إذن بين مناهضة التنوير وما بعد الحداثة، ومن هذه الزاوية ترجم عدد هائل من النصوص التى وضعها دريدا وفوكو ودلوز وليوتار إلى الإنجليزية، الأمر الذى أحدث تغييرا فى الحياة الفكرية الأمريكية، وكان عدد هائل من هذه النصوص مستلهما من كراهية نيتشه للحضارة، وعدائه لها، وتلقت هذه الآراء ترحيبا فى أوساط جيل من الأكاديميين، كانوا يشعرون بخيبة الأمل، بسبب حالات الفشل السياسى فى الستينيات.
أوهام العظمة
هبطت الشهرة فجأة على الفيلسوف الألمانى نيتشه، رغم أن كتبه لم تكن تبيع أكثر من 100 نسخة، وكان يضطر أحيانا إلى المشاركة فى تكاليف النشر، تبدلت حاله فجأة حتى إنه كتب فى خطاب أرسله إلى أمه فى ديسمبر 1888 يقول فيه: «بصفة عامة أصبح ابنك الذى كبر شخصا مشهورا الآن، ومن بين المعجبين بى عباقرة حقيقيون، ولا يحظى اليوم اسم مثل اسمى بالتقدير والتبجيل، وترين أن هذه أعجب نكتة، فمن دون حسب ولا مرتبة رسمية ولا ثروة، يعاملنى الناس معاملة أمير صغير، وأنا أعنى جميع الناس، حتى البائعة الجوالة».
انطلقت أوهام العظمة بلا حدود عند نيتشه كما يقول المؤلف فقال فى خطاب لأخته، إنه «يقبض دون مبالغة على مستقبل البشرية فى راحة يده» ولم يكن ينظر إلى أعماله باعتبارها «أعمالا أدبية» بل بصفتها «إعلانات حرب» ضد الأزمة الروحية السائدة فى أوروبا، وكان يرى نفسه «ميدان قتال» للتاريخ الأوروبى فى المائتى عام المقبلة، ويعى جيدا أن حجابا يقوم بين الناس وبين قراءة أفكاره، يقول: « إن الضجة المثارة حولى تنشر عباءة على أفكارى».
كان نيتشه سيئ الحظ فعلا، فبعد موته وفى 2 نوفمبر 1933 قام مستشار ألمانيا (الجديد) أدولف هتلر بزيارة إلى أرشيفه فى فايمر، وكانت فى استقباله إليزابيث أخت الفيلسوف، التى كانت دائما تغير محتويات الأرشيف، فتخفى بعض الوثائق، وتضيف وثائق مزورة، حتى تجعل نيتشه يبدو فى صورة غير حقيقية.
فى عقب تلك الزيارة أضيفت قداسة على اسم نيتشه، باعتباره الوحى الفلسفى من وراء المذهب النازى، يقول الناقد «جورج لوكاتش» فى الكتاب الذى أصدره عام 1952 بعنوان «تدمير العقل» إن نيتشه بشر بأشد الطرق العملية وضوحا بأيديولوجية هتلر الفاشية، وفى عام 1981 نشرت مجلة دير شبيجل موضوعا رئيسيا عنه، وظهرت على غلافها صورتان لنيتشه وهتلر، إلى جانب عنوان مستفز: «هتلر الذى ارتكب ونيتشه الذى فكر».
رجل الطب الروحاني
كان النازيون فى الثلاثينيات من القرن الماضى، يحطون من قدر التحليل النفسى، باعتباره علما يهوديا، وهو ما دعا أتباع فرويد إلى الهجرة، فرارا من الاضطهاد إلى بلدان أنجلوسكسونية، حيث عملوا على إعادة تثبيت أقدامهم ونجحوا، أما أتباع «يونج» فإنهم خاضوا معركة، حتى يكفلوا قبول مذهبهم، وكانت طريقهم شاقة، فقد ظلت مبادئه لسنوات عديدة بعد الحرب، تكافح عبثا فى سبيل قبولها، لأن «يونج» عمل كثيرا للتمتع بمكانة قيادية بين علماء النفس النازيين.
كان الحديث يدور بعد الحرب بين الحلفاء، حول محاكمته باعتباره من مجرمى الحرب، وكان إذن يمثل وصمة عار من المحال الخلاص منها، وكانت تصريحاته داعمة للفاشية الألمانية والإيطالية، منذ انفصاله المشهور عن فرويد عام 1914 إذ كانت أفكاره تغذى صورة العالم النازية فى مراحلها المبكرة.
فى عام 1932 ألقى «يونج» خطابا يحتفل فيه بما حققته الفاشية الإيطالية من انتصارات، زاعما أن الأمة الإيطالية أصبحت تهلل فرحا وغبطة، بفضل شخصية القائد موسولينى، وأن أنغام الأسى التى نسمعها من الأمم الأخرى، تندب افتقارها إلى زعماء أقوياء، وعندما نشر هذه الخطبة عام 1934 أضاف إليها العبارة التالية: «حدث منذ أن كتبت هذه الجملة أن وجدت المانيا أيضا قائدها».
لم تكن الإشارات المؤيدة لهتلر نادرة لدى «يونج» فقد ضرب المثل فى الابتذال، حين وصل النفاق عنده أقصى مدى، ولذا يجب ألا نندهش حين نجد مثل التعبيرات التالية، فى خطابات عتاة المنافقين فى العالم العربى، ففى حوار أجرى معه قال «يونج»: «لا مراء فى أن هتلر ينتمى إلى فئة رجال الطب الروحانى الصادق، فكما جاء فى كلام أحد المشاركين فى مؤتمر الحزب، الذى انعقد أخيرا فى نورمبرج، لم نشهد شيئا كهذا من زمن النبى محمد فى العالم، أى أن هذه الروح الربانية المؤكدة، هى التى تجعله يفعل أشياء، تبدو لنا غير منطقية، ولا تفسير لها، بل غريبة وغير معقولة، وهكذا كما ترى، يعتبر هتلر من رجال الطب، قل إنه شكل من أشكال الأوعية الروحية، نصف رب، أو قل بتعبير أفضل إنه أسطورة».
الهجرة إلى الداخل
يشير الكتاب إلى أن الحياة العملية للفيلسوف هانز جورج جادامر (1900 2002) تمثل فيما يبدو إحدى قصص النجاح، فعلى عكس أستاذه هايدجر لم يلتحق قط بالحزب النازى، وكان يمتلك قدرة خارقة على أن يظل فوق المعترك السياسى، فى حقبة تميزت بالشمولية والتطرف، إذ قيل إن جادامر لجأ إلى «الهجرة إلى الداخل» فى أثناء سنوات الحكم النازى، لكن ما حدث كان شيئا آخر. فى أوائل الأربعينيات ثبت أن هانز جادامر كان على استعداد للدعاية للنظام، إذ سافر إلى باريس لإلقاء محاضرة عن «الشعب والتاريخ فى فكر هيردر» وهى التى قدم فيها مبررات صريحة لهيمنة النازية على أوروبا، إذ قال إن المثل العليا للتنوير قد أفلست، وأن انتصارات ألمانيا فى ميادين القتال، كانت تعبيرا عن تفوق الثقافة الألمانية.
يكشف المؤلف أن جادامر فى الشهور الأولى من عمر النظام النازى، قد تطوع فى معسكر نازى، مخصص لإعادة التثقيف السياسى، بقصد مساعدته فى حياته العملية، ولا يذكر الفيلسوف أنه التحق بنقابة المعلمين التابعة للحزب النازى، وهو ما يوحى بإمكان التزامه بسياسات النظام، التزاما أعمق، مما يشير إليه فى سيرته الذاتية، التى يعترف فيها بأنه وقع التماسا مؤيدا لهتلر، بشأن الاستفتاء الذى أجرى حول انسحاب ألمانيا من عصبة الأمم، وكانت تلك الخطوة هى الأولى على الطريق الطويلة المؤدية إلى البلطجة الدولية.
الهجوم المضاد
يتناول الكتاب أيضا فيلسوفا فرنسيا، يروج له البعض فى الفترة الأخيرة فى العالم العربى، وهو جورج باتاى (1897 1962) الذى كان أمين مكتبة بالنهار، وفى الليل متخصصا روحيا، يعشق الأسرار العصية ويكتب الروايات، وكان عدوا لدودا لأندريه بريتون وللسيرياليين، وكان استيعاب نصوصه طقسا من طقوس النضج لجيل من المثقفين الفرنسيين، منهم كلود ليفى شتراوس وجاك لاكان وفوكو ودريدا ورولان بارت وجيل دلوز وجان فرانسوا ليوتار، كان باتاى هو الشخص المحورى الذى يربط جيلا من النقاد الثقافيين الراديكاليين الفرنسيين، بالجيل الذى يليه.
كان التوجه الفكرى عنده متناغما مع مبدأ عدم الالتزام، واسع الانتشار فى فرنسا فى الثلاثينيات، وكان يعنى إدانة الليبرالية والحكم البرلمانى والعقل التنويرى، ويرمى إلى أن يقدم بدلا منها جميعا مبدأ الالتزام بفكرة مجتمع النشوة، وكان هذا الموقف يبدى تعاطفا متزايدا مع أهداف الفاشية.
لم يكن باتاى يتعامل شخصيا مع حكومة فيشى (العميلة للنازي) ولم يكن عضوا فى حركة المقاومة للاحتلال النازى، بل إنه قضى سنوات الحرب فى «هجرة داخلية» وكانت النصوص التى كتبها فى سنوات الحرب العالمية الثانية، تفصح عن حاجة عميقة إلى الانفصال عما حوله، لكنه كتب مقالا بعنوان «البناء السيكولوجى للفاشية» يقدم فيه إعجابا لم يفلح فى إخفائه كما يرى المؤلف بالطاقة والحيوية اللتين تتميز بهما دول أوروبا الفاشية الفتية.
كان الإعجاب الذى أبداه باتاى بالأساليب الفاشية، قد طفا إلى السطح بصورة أصابت بريتون وحلفاءه بجرح عميق، إذ كان باتاى يرى أن الثورتين الفاشيتين فى إيطاليا وألمانيا قد حققتا النجاح وحدهما، فى تحدى الانحلال الليبرالى الديمقراطى، وفى بيان أطلقته جماعة «الهجوم المضاد» التى أسسها نقرأ: «إن السلامة العامة تتطلب ديكتاتورية، لا تعرف أنصاف الحلول من جانب حاملى السلاح» بل إنه يقول: «إن مستقبل أوروبا السياسى سوف يحسمه إنشاء شبكة واسعة النطاق من القوات المتعصبة والملتزمة بالنظام، والقادرة على أن تمارس يوما ما ديكتاتورية لا ترحم... نعتزم أن نستخدم الأسلحة التى خلقتها الفاشية، وهى المذهب الذى يعرف كيف ينتفع بالطموح الإنسانى الأساسى للسمو الشعورى والتعصب».
يبدو عداء مؤلف كتاب «قصة الغرام الفكرى بالفاشية» لليسار بكل أطيافه واضحا، خصوصا فى الفصل الأخير: «صورة أمريكا فى الفكر الحديث» وفيه يستعرض - بما يشبه الرفض - مقولات كبار الكتاب والمفكرين عن أمريكا، ومنهم سارتر الذى كان يراها «بلدا انتصر فيه أبشع شكل من أشكال الرأسمالية» أما سيمون دى بوفوار فكانت ترى من الزاوية الثقافية أن الأمريكيين «شعب من الغنم» وبالنسبة لعضو مدرسة فرانكفورت «ماكس هوركهايمر» فكانت أمريكا البلد الذى يشيع فيه «مضغ اللبان».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.