شكل عصر التنوير لحظة مفصلية فى تاريخ الفكر الإنسانى إذ جعل من الإنسان مركزا للعالم، ونظر إلى العقل البشرى باعتباره ملكة خاصة بالإنسان وأداة حركة الفكر، وإنه جوهر التاريخ ومحركه الذى يمدنا بالمعرفة، وكان هدف فلاسفة التنوير هو رمى الأحجار فى البرك الآسنة لتحريكها، وبمعنى آخر، تحريك الفكر وتحرير العقل من الأوهام، والتخلص من أى سلطة معرفية تعمل على كبح لجام العقل النقدى ومحاصرته وجعله عاجزا عن تحفيز الفكر وإثارة الأسئلة. وبما أننا لم نلحق بقطار التنوير والحداثة فعلى الأقل يجب أن نعى نحن والأجيال الصاعدة تاريخه ورموزه وآلياته، فما لا يدرك كله لا يترك كله. أن عصر التنوير هو العصر الحديث الذى تميز بالتقدم العلمى والتكنولوجى وتطور الأداء والفنون، وهو أيضا عصر الثورة الصناعية، وتعود إليه جميع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية المعاصرة بصورة مباشرة أى أن التنوير يعنى انبعاث الروح النقدية التحريرية التى تخطت تشاؤمية العصور الوسطي، واستخدام العقل لمناهضة التفكير الغيبى والأسطورى انطلاقا من أن العقل البشرى هو المصدر الوحيد للمعرفة الصحيحة. وتعود أصول عصر التنوير إلى عصر النهضة الذى تطور خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فقام على الفلسفات الإغريقية والإسلامية والشرقية القديمة، وعلى أنقاض تفكك علاقات الإنتاج الإقطاعية، ونشوب الحروب الصليبية وبدايات نشوء الرأسمالية فى إيطاليا وتطور «المانيفكتوره» ومعناها (المصنع اليدوى الصغير) واكتشاف قوة البخار والطباعة من جانب جوتنبرج عام 1445، وتطور وسائل النقل البحرية التى أدت إلى التوسع فى الاستكشافات الجغرافية واكتشاف العالم الجديد، وأدى كل ذلك إلى انتاج تيارات اجتماعية وفكرية وفلسفية عقلانية نقدية فى مقدمتها، تطور العلوم والتكنولوجيا والفلسفة والآداب والفنون والموسيقى والمسرح وغيرها، ونمو النزعة العقلانية التفاؤلية التى تعتبر الإنسان معيار كل شيء، وأن الطبيعة البشرية والمجتمع هما مصدر القيم الإنسانية، وظهور تيارات فكرية ومذاهب سياسية ونظريات اجتماعية وفلسفية كان فى مقدمتها «فلسفة التاريخ» لهيجل، و «فلسفة القانون» لمونتوسكيو، ونظريات العقد الاجتماعى لهوبز ولوك وروسو، وقيام »الثورات البرجوازية« التى توجت بالثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان. ومهدت التحولات البنيوية الطريق لظهور فلاسفة الأنوار، وفى مقدمتهم كل من: رينه ديكارت (1596 1650) مؤسس الحداثة الفلسفية فى تطويره المنهج العلمى الحديث، واختراعه نظاما رياضيا شكل النواة الأساسية للهندسة التحليلية، ومن مقولاته الفلسفية المشهورة مبدأ «الكوجيتو» «أنا أفكر إذن أنا موجود». كانط من (17211804) أبو الفلسفة النقدية ومؤسس الفلسفة العقلانية والمنهج النقدى الذى يتميز بالجدل العقلي، وقد أصبح النقد عنده محور الفكر الفلسفي. فريدرش هيجل (17701831) أحد أهم الفلاسفة الألمان ومؤسس الفلسفة المثالية والفكرة المطلقة، ومن أهم كتبه «فلسفة التاريخ» و «فينوميثولوجية الروح». وقد كتب كانط أن التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذى اقترفه فى حق نفسه، وهذا القصور بسبب عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر، فالكسل والجبن هما علة بقاء البعض من الناس عاجزين وقاصرين طوال حياتهم برغم أن الطبيعة حررتهم من كل سلطة ووصاية خارجية غريبة عليهم، وفى الوقت نفسه فإنهما سبب تجرؤ الآخرين فى أن يفرضوا وصاياهم عليهم، فمبدأ التنوير هو كن شجاعا واستخدم عقلك بنفسك. وامتدت رياح التغيير إلى الأدب والفن والمسرح واللغة فى أوروبا وبدأت بالحركة الإنسانية وصدور أعمال أدبية وفنية ومسرحيات نقدية، كما صدرت مجلات أدبية وعلمية وفلسفية، وظهر فى فرنسا مفكرون عظام أمثال فولتير وروسو وديدرو ومونتسكيو وهلفيسيوس، وفى ألمانيا هيردر وكانط وهيجل وماركس وجوته ونيتشه، أما فى إنجلترا فقد برز هيوم وجونسون وبراون وهوبذ ولوك، وفى إيطاليا فيكو وميكافيللى وغيرهم، وفى إسبانيا سرفانتس الذى اشتهر بكتابه «دون كيشوت» وإذا مثل عصر التنوير العصر الحديث، فإن الحداثة تمثله هى الأخرى لأنها من التجديد والتحديث، وهى نقيض القديم والتقليدي، ويتم تحديث الأشياء بما يناسب روح العصر، وبمعنى آخر، فإن عقلنة العالم «ماكس فايبر» تعنى رفع السحر والأساطير والمعجزات عنه وتخليصه منها والحداثة صيرورة مستمرة تفرض صورة جديدة للإنسان والعقل والهوية تتناقض جذريا مع ما كان سائدا فى القرون الوسطي، فهى تمثل مجمل التطورات والتحولات البنيوية الواسعة فى بنى الإنتاج والمعرفة والثقافة والتكنولوجيا التى تطورت فى أوروبا، خلال العصر الحديث نتيجة التقدم العلمى والتقنى لعصر التنوير، وتنفرد الحضارة الأوروبية بأنها الوحيدة بين الحضارات التى فرضت نفسها على سائر العالم، بالغزو والاستيطان والإمكانات الاقتصادية والعلمية وقوة الأفكار، فقد ملكت هذه الحضارة ما كان الآخرون فى حاجة إليه، وتستخدم اليوم كل دولة على الأرض اكتشافات العلم والتكنولوجيا التى تدفقت من الحضارة الأوروبية، فالعلم كان اختراعا أوروبيا.. أما العرب الذين لم يخترعوا العلم عليهم، على الأقل أن يتخذوا منه منهاجا فى كل مناحى الحياة، وإلا فلا مكان لهم فى قطار الحداثة والتطور. د. عماد إسماعيل