(1) "أنتم تسرقون اللذة، تختلسونها وتركضون.. فتلهثون، وقبل أن يهدأ لهاثُكم تعاودكم الرغبة، فتعودون لمحاولة أخرى.. لسرقة أخرى، يُجللكم شعور بالخزى، يمنعكم من النظر فى عينى اللذة، فيركبكم الخزى نفسُه، وتنكسرون. تظنون أن اللذة لا بدّ وأن تتم فى غفلة من شيء ما.. من شخص ما، لا بدّ وأن تكون مواربة، مستورة ومحجوبة، حتى عن أعين أصحابها. لذا تظل، نفوسكم منكسرة، وعيونكم خفيضة تخشى المعاينة. تهيأ لكم، لا أدرى لم! أن التدقيق والفحص والتملى والتمعن والتفكير..أمور تتعارض مع اللذة. حصرتموها فى القطف والخطف والمباغتة والاختلاس. تقضمون وتزدردون كالبعير، لا تمنحون أرواحكم المجالَ للتعرف، فيظل عطشُكم قائمًا دون أن تشعروا، تمامًا كالبعير. ومثله أيضَا، يظل الماء مكتنزًا على ظهوركم ولا ترتوون، تدخرونه لتجتروه فى وقتٍ.. لن يأتى، هو لن يأتى، وقت اللذة لا يأتى إنما يُذهب إليه، يُقصد لنفسه... وأنتم لا تقصدون". - وماذا عنك؟ سألته حين طال صمته. فقال: "أنا! أنا، كما ترى.. مجنون". أعرف أن نفى الجنون عنه هو ما يصيبه بالجنون؛ فاخترت الصمت. ثبّتَ عينيه الحمراوتين فى عينى طويلًا إلى أن صرفتهما عنه خجلًا وارتيابًا؛ فأطلق ضحكته العجيبة.. أطالها حتى اندلقت من شيش البلكونة المفتوح، ورفرفت بأجنحة كثيرة فتخبّطت بشجيرات نخيل الزينة، وأوراق أشجار الفيكس العتيقة، واصطدمت بأركان البيوت المحيطة بالحديقة من كل صوب، ثم عادت.. كما يعود الفردُ الزاجل إلى بيته، ورقصت على رنين صداها فى المساحة الشاغرة بين عينيه المشرعتين وعينى المنكسرتين، قبل أن يقطع رقصتَها ورنينَ صداها بعبارة صنعت تاريخه معي؛ تاريخ اللواء حسن مكمّل صابر فرحات، ووضعت على عاتقى مسؤولية تدوينه ونقله للأجيال. سحب نفس دخّانٍ طويل من سيجارته.. رفع ساقًا فوق الأخرى فانهدلت الجلابية الكستور المكرمشة عن ساقين مشعرتين وقدمين مفلطحتين بأظافر عريضة متكلسة ومتسخة، وهو يقول خالطًا الكلمات بالدخان باللعاب: "أما أنا، فقررت التحديق فى عينى اللذة، التحديق إلى أن يصيبها الخجل، وضعت عينى فى عينيها وحدقت، طويلًا. قاومت شعورًا مخيفًا بالانزلاق فى هاوية.. رأيتها تنفتح أمامى واسشتعرت لزوجتها التى لن تسمح لى بالتشبث، لكننى تجاهلتها، وأغلقت أذنى عن صرخات حذرتنى من الاستمرار، بل أمرتنى بالعودة. وتفاديت إلا قليلًا سياطًا غيرَ مرئية كوتنى كالجمر، تحملتُ وانطلقت.. ولم أعد، ظللت محدقًا فى عينيها حتى اخترقت غوريهما". - ثم!؟ لفظتها مندهشًا من قدرته العجيبة على ضبط سياق الحديث هذه المرة، هو من يخشى أن يُكمل فكرتين -أو حتى فكرة واحدة- إلى آخرها حتى لا يُضبط متلبسًا بتهمة العقل، أو بالأدق تهمة "غير الجنون". أردت لمداخلتى أن تكون خفيفة سريعة هامسة حتى لا توقظ وعيه، أو لا أدرى إن كان من يتحدث هو وعيه أم لا وعيه، لم أزد عن "ثم؟!" لأحثه على المضى إلى الأمام فى هذه المنطقة، لكنه خيّب رجائى، وسأل كعادته: "الأول... عاقل وإلا مجنون؟" لم يكن أمامى سوى أن أمنحه الإجابة التى ترضيه، ربما يعود إلى ما بدأه، فقلت بنبرة زيفتها لتنقل عكس يقينى بعقله: - مجنون طبعًا. ارتسمت على شفتيه ابتسامة، جديدة أيضًا؛ يبدو أن يومنا هذا هو يوم الجديد فى كل شيء: حكاياه، ضحكته، نظرات عينيه، وطريقة جلسته. صحيح أن العبارة "الله يكرمك يا بني" لم تكن جديدةً، إلا أنه نطقها هذه المرة كذلك بشكل مختلف، وأعقبها بسحب نفس طويل قضى على السيجارة، ولسع أصابعه فألقى العُقْبَ المحترق على الأرض متخليًا عن عادته فى إشعال واحدة من الثانية كما يقول. التقطتُ سيجارةً من العلبة الراقدة على حرف الطاولة، وبولاعته الزرقاء، أشعلت السيجارة ومررتها له، أعجبته الحركةُ لكنه لم يرض عن موضع العلبة والولاعة، فهمت ذلك من تثبيت عينيه عليهما وصمته، فأعدتهما بكل ما أمكن من دقة إلى موضعيهما مستعينًا بحوافّ التراب الناعم المرسومة على شكليهما، ورفعت عينى إلى عينيه متوسلًا من دون كلمة، فاسترخى وانطلق فى الكلام: "هناك، هناك فقط، أدركت مدى الحماقة التى ارتكبتها، ودفعت حياتى كلها ثمنًا لها، إذ لم يعد أمامى سوى ذلك بديلًا". - كيف حدث ذلك يا سيادة اللواء؟ سألته، فتغاضى للمرة الثانية عن نبرة التوقير التى تخيفه. مدّد ساقيه فوق الطاولة، تمامًا بالقرب من علبة السجائر، ففهمت سبب حرصه على عدم تغيير موضعيهما. أراح رأسه على قوس الكرسى الخيزران، واستدعى صوته الطفولى الذى أعرفه، وراح يكرر بغنّة تغيظ: "شَيّ، وبَيّ.. أنا كنت عاوز شي". تفاءلت بغنته هذه المرة؛ إذ تشى بأنه مستعد لفتح باب الحكاية نظير كوبين من الشاى نشربهما معًا فى البلكونة، فأسرعت نحو المطبخ وبدأت فى إعداد الشاى.. وما زال صوته يتردد عابرًا صالة الشقة فيما يشبه الترتيل: "شَيّ وبَيّ". (2) إن كنتم تسعون إلى معرفة الحق من الباطل فيما يلى من قصص؛ فلن أفيدكم كثيرًا؛ إذ لم أشهدها بنفسى، ولم تصلنى نقلًا عن مصدر موثوق. ولا أخفيكم؛ لم أتحرّ حتّى الدقة فى نقلها. كنت مغرمًا بسماعه واستفزازه ليعيدها، طامعًا فى أن يكون فى الإعادة جديد. ولم أدوّنها إلا بعد مرور سنوات طويلة من سماعها. فى الحقيقة، لم أكن لأفعل، لولا أن هاجسًا ثقيلًا ظلّ يُلح على، إلى حدٍّ بِتُّ معه أرى المشقةَ والعناءَ اللذين تمثلهما الكتابةُ بالنسبة لى، جنَّةَ النعيم، مقارنة بجحيم هذا الصوت المضجِر الذى يصدر من بقعة خفية فى أعماقى، ينادينى بأسماء غريبة، وينعتنى بنعوت مريبة، ويحذرنى من بئس المصير إذا تجرأت وتجاهلت نداءه. لعلمكم، وطالما أننى مضطر للتواصل معكم، فيجب أن تعرفوا أننى شخص حسّاس بطبعى. يجوز لكم تصنيفى مفرط الحساسية حين يتعلق الأمر بحقوق الآخرين. فرغم هذا العمر الطويل والمعرفة العميقة بالكون والكائنات، لا زلت أعتقد أنه إذا كان لإلهٍ أن يحاسب الناسَ على أعمالٍ قاموا بها فى هذه الحياة التى أُرغموا عليها، فإن أول ما يدخل ضمن هذا الحق الإلهى ما اقترفته أيديهم من أذى –مهما بدا صغيرًا- تجاه الآخرين. يروق لى أحيانًا أن أصنّف الناسَ فى جهنم الموعودة، وفق طبيعة الآخرين الذين تعرضوا للإساءة، ودرجات هشاشتهم وضعفهم. وليس فقط وفق مبالغ تلك الإساءات، أو وفق طبائع المذنبين أنفسهم أو طبائع أفعالهم؛ مثلًا، مثلًا أعنى، لا يمكن أن تقنعنى بأن عقوبة من أساءَ إلى طفلة أو طفلٍ تتساوى مع عقوبة من أساء إلى امرأة أو رجل. كما لا أستطيع تقبل أن من أساء إلى امرأة يتساوى فى العقاب مع من أساء إلى رجل مثله. أنا فى الواقع –وهو أمر جديد أضيفوه إلى معلوماتكم عني-ضد فكرة المساواة، سواء بين الرجل والمرأة أو بين الناس وبعضها البعض. إنما أنا مع فكرة العدالة. والفرق بينهما كبير -ربما تتاح لنا فرصةٌ لمناقشته لاحقًا- ولكن أعطيكم مثاًلًا عليه؛ العدالة أن تمنح كل طفل لعبة يحبها وتناسب مهاراته، أما المساواة أن تمنح كل الأطفال كرات قدم، من دون اعتبار لطفل قعيد وطفل لا يحب كرة القدم وطفل ضرير وطفل يعشق كرة السلة. أعود إلى فكرة حقوق الآلهة فى مجازاة المذنبين؛ هل يمكن مثلًا، مثلًا أعنى، أن تتساوى عقوبةُ من أساء إلى رجل عاقل (يعنى أن عقله يعمل مثله مثل عقول الآخرين) بعقوبة من أساء إلى رجل ذى عقل مختلف؟ صاحب العقل الذى يعمل بطريقة مختلفة عن المعتاد، واقعٌ دائمًا تحت ضغط نفسى رهيب، وربما ظنّ مثلًا.. مثلًا أعنى، أن الجميع يخططون لقتله. فكيف يطاوعك قلبك على تعريض مسكين مثل هذا للإساءة؟ هذا سؤال لن تجرؤ على اختيار إجابة له من الأساس. والإجابة الوحيدة إن أردت التفكير: لا يمكن بالطبع؛ فمن يستطيع تحمل التبعات النفسية لذنب مثل هذا؟ وإذا ساقك القدر... (كلما سمعت كلمة قدر تخيلت كائنًا يمسك بمكاييل، ويجلس وسط مجموعة ضخمة من البراميل، معبأةٍ بأشياء غريبة، ويضع -بواسطة هذه المكاييل- مقاديرَ متفاوتة من كل شيء فى صناديق كثيرة.. كثيرة.. كثيرة ومختلفة. هذه الصناديق هى نحن، أو قدرنا مما سنحصل عليه فى "الدنيا"، وهى عكس "العليا" التى يجلس فيها هذا الكائن الكبير. صورة كلاسيكية للغاية تعود للقرون الوسطي! لا بأس؛ يمكن جعل هذا الكائن شابًا وسيمًا أو امرأة جميلة تدير الأمر عبر نظام يشبه الفيس بوك، ويحدد أو تحدد لكل حساب مقاديرَه من قائمة منسدلة كبيرة، الخيال يتطور والفكرة واحدة). ما علينا من هذا، أيًا كانت الطريقة التى يدير بها العُلوى أمر الدنيويين، هل يمكنك تجاهل طلب رجل عجوز وضعيف لم يجد غيرك فى العالم كله ليودعك سرَّه الخطير! ولكن قدره- وربما قدرك- أنه لا يعرف كيف يفعل ذلك إلا عبر سرد قصص كثيرة.. كثيرة.. أعنى كثيرة.. كثيرة فعلًا، وليس مثلًا؟ معظم هذه القصص مكرر.. مكرر يعنى كوبى بيست -لمحبى مصطلحات التكنولوجيا الحديثة- كلها نَسْخ ولصق، إلا تفصيلة وحيدة فى مرّة، أو معلومة، أو جزء من معلومة فى مرّة أخرى. من يستطيع تحمل ذلك؟! إنه قرار إعدام بواسطة التكرار. إن كمية الملل التى ينبغى عليك تحملها وأنت تسمع القصص ذاتها كل ساعة، كل ليلة، كل يوم، وفى المواعيد نفسها تقريبًا... يكفى لإجبار قبيلة بأكملها على الانتحار. ولكن فى المقابل؛ يتجلى عِظَمُ المسؤولية الملقاة على عاتقك، فيجبرك على تقدير قيمة حياتك -فهى مرتبطة بسرٍّ خطير أراد صاحبُه نقلَه إليك، وحدك، لن يجد غيرك، وليس فى استطاعته إتمام ذلك إلا بتسريب سرّه وسط كومة مذهلة من القصص المكرورة والمعادة. ربما هو لا يراها كذلك، المهم أنه اختارك، هو أو القدر، أو اختارتكما الصدفة، لا يهم، المهم أنه وثق فيك فحكى لك، وأنك تحملت فاستمعت. الأهم الآن من كل هذه اللكلكة الفارغة، هو هذا الصوت ابن الكلب الذى يصرخ بداخلى ولا يمكن إسكاته، هذا الصوت الرذيل ابن الرذيل الذى يهتاج فيزلزل جدران داخلى متسببًا فى آلام حقيقية كلما قررت تجاهله. انتبه... أو لا تنتبه، هناك احتمال مخيف، مهما بدا ضئيلًا، أن تكون عدوى الفصام قد انتقلت إليك من الخال المهيب. من اللواء حسن مُكمّل صابر فرحات، الشهير بحسن كفتة. فهو بإصراره على سرد حكاياته عليك وحدك، نقل إليك مرضه! وأنك -بقبولك الاستماع والاهتمام بالتفاصيل والانشغال بالمقارنة بين نُسخها المعادة، قبلتَ بانتقال العدوى، أو استسلمت لها! يبقى الاحتمال قائمًا، رغم كومة الكتب التى تنفى فكرة العدوى فى الأمراض النفسية، وحتى العقلية. لكن يبقى الهامش الكبير الذى يسمونه الإيحاء، هامش مرعب. خذ حذرك إذن، وإن كان بلا قيمة فى مقاومة هذا الصوت.. ابن الكلب. الأمل الوحيد أن تحكى، مثلما كان يفعل معك، احك.. احك.. احك، كرر حكاية "شيل الحووشااااان حوتتوه فى الشاندووووون"، وافش سر "الجُبّ والعُنّ والخصاء... والجعبري"، وحدثهم عن عبد البديع النخلة وابنته الزرقاء، وبندقيته أم روحين، وكُبّابيّة البنت ضحى، والملاعق التى دائمًا فى البحر...يا سى الحاج، وعود خشب القطن وعود خشب الذرة، وشامم إيه؟ مسك يا عم الحاج مسك. وكيف تأخذ الموضوع من أوله؟ وماذا يحدث إذا أحببت أخذه من آخره! وشارع ادّاكواره، وحارة القمبيضى، وتجارة السلاح، وشبكة الدعارة الرسمية، وقاهرة الأربعينات الساحرة، ووزارة الداخلية، وعقدة توفيق الدقن، وشبكة التجسس العالمية، وضحكة المحتاج، وعفريت الخشرة، و...و.... أعد، كرر.. كرر.. كرر، استفرغ الحكايات كلها، كرر الشفرات التى كررها على مسامعك حسن كفتة، كررها، ربما حين تفرغ البئرُ من نسخها المتوالدة لا يجد هذا الصوت ابن الكلب المرعب زادًا يتغذى عليه، فيرحل، أو يموت كما ينبغى لحشرة، صمتًا فى مقبرة.