مازالت كارثة محطة مصر تلاحقنا وتخيفنا بصورها المنشورة وصورها المتخيلة وتقطع علينا الطريق وتستدعى التأمل والتساؤل والتفكير. وهذا أمر طبيعى وصحى ودليل من ناحية على ما استثارته الكارثة من صور الجحيم الدنيوى والأخروي، ومن ناحية أخرى على يقظة المصريين ووحدتهم وشعورهم العالى بأنهم عائلة واحدة. وكارثة محطة مصر ليست مجرد حريق يستطيع الناس مهما يكن حجمه أن يحيطوا به ويحاصروه ويخمدوه، لكنها انفجار بركان لا عهد لنا به، وزلزال مدمر، ونازلة مفاجئة تجاوزت كل توقع وألجمت الألسنة وأثارت الأسئلة التى لم نفهمها حتى الآن، ولم نجب عليها حتى الآن، وإلا كيف نفهم أن يقع كل هذا الذى وقع لأن سائق الجرار قرر فى يوم هادئ ودون مقدمات أن يتشاجر مع سائق جرار آخر؟ وكيف نفهم أن يترك جراره يتحرك على هواه ويضاعف سرعته حتى يتحول إلى وحش كاسر مكشر عن أنيابه يندفع بأقصى سرعة ليصطدم بالموانع ويناطح الصدادات، ثم يتحول إلى بركان جهنمى متفجر يلتهم الأجساد والأرواح؟ وكيف نفهم ردود فعل المسئولين على كل هذا الذى حدث؟ التحقيق مع السائق وزملائه واستقالة وزير النقل! هل هو السائق وحده المسئول؟ وهل تصحح استقالة الوزير هذا الفساد المتغلغل المستشري؟ أم أن الأمر يحتاج إلى حساب آخر كان يجب أن يحدث قبل وقوع الكارثة ليمنع وقوعها؟ نعم، هذا هو السؤال الذى يجب أن نطرحه ونصل فيه إلى إجابة صريحة واضحة: نحاسب المتسببين فى الكوارث بعد وقوعها؟ أم نحاسبهم عليها قبل أن تقع؟ وقد قرأنا فيما نشر حول الكارثة أن النيابة أمرت بالقبض على سائق الجرار وحققت معه وأودعته السجن، وأن وزير النقل تقدم باستقالته لرئيس الحكومة الذى قبلها على الفور طبعا. وبهذه الصورة تحققت العدالة. السائق المخطئ محبوس، والوزير المسئول مستقيل. لكن المشكلة أن العدالة التى تحققت بهذه الصورة الباردة ليست إلا قرصات آذان لم يحصل بها أحد على حقه. فحبس السائق واستقالة الوزير لم يعيدا الضحايا الذين أصبحوا رمادا تذروه الرياح إلى الحياة! وقد يبدو هذا الكلام وكأنه هزل فى مقام جاد جدا، لأن أحدا لا يستطيع أن يطالب القاتل بإعادة ضحيته للحياة، اللهم إلا الزير سالم الذى نهض ليثأر من جساس قاتل شقيقه الملك كليب فى حرب استمرت أربعين سنة وسقط فيها ضحايا كثيرون بيد الزير سالم الذى لم يكن يشفى غليله سقوطهم، لأنه لم يكن يطلب قتيلا ثمنا لقتيل، وإنما كان يطلب من فقده، وكان يقتل خصومه ليوسعوا أمامه الطريق إلى روح شقيقه طالبا عودته حيا. وهذه هى العدالة الحقة كما كان يراها. لكن كليبا لم يعد للحياة بعد أربعين سنة من الحرب، لأننا لا نستطيع أن نعيد الحياة لمن مات، وإنما نستطيع أن نحمى الأحياء من الأخطاء والأخطار التى تهدد حياتهم. نستطيع فقط أن نضمن للضحايا المرشحين ألا يلقوا هذا المصير إذا تكررت الأخطاء التى أدت لسقوط من سقطوا فى محطة مصر. فإذا قمنا بما يجب أن نقوم به لإنقاذ المرشحين للموت من أن يموتوا فنحن بهذا المعنى نعيدهم للحياة. ونحن نعلم أن كارثة محطة مصر ليست الأولي، بل هى الرابعة فى سلسلة الكوارث التى احترقت فيها قطارات السكك الحديدية فى السنوات الأخيرة وراح ضحيتها مئات المواطنين، وحقق فيها مع المسئولين، واستقال فيها قبل الوزير الأخير ثلاثة وزراء، فضلا عن الخسائر المادية التى تقدر بالملايين والخسائر المعنوية التى لاتقدر بثمن. فقدان طفل لأبيه أو فقدان والد لولده خسارة لاتقدر بثمن. فإذا كانت الكارثة الرابعة قد وقعت فليس لدينا ضمان بأن تكون هى الأخيرة. بل نحن نرى من الآن أن هذه الكارثة الرابعة لم تكن الأخيرة، فالذى حدث فى محطة مصر منذ أسبوعين حدث فى محطة الاسكندرية منذ أسبوع، سوى أن القدر وحده لم يسمح لأخطائنا وعيوبنا أن تأخذ مداها وتصل فى الاسكندرية إلى ما وصلت إليه فى القاهرة، وقبلها فى الصعيد عند العياط، وقبل ذلك فى مزلقان منفلوط، وإنما تلطف بنا فى الاسكندرية وحصر الخسائر فى نطاق محدود. والسؤال هو: هل نستطيع أن نتعلم من القدر ونتنبأ بما يمكن أن يحدث؟ والاجابة: نعم. لأن ما يحدث لايحدث فجأة وإنما تسبقه بدايات ومقدمات يشير بعضها لبعض ويؤدى بعضها لبعض. لهذا نستطيع أن نتوقعها ونراها فى بداياتها وأن نحاسب المسئولين عن الكارثة قبل وقوعها. لكن هل يحق لنا أن نحاسب أحدا عن شيء لم يقع؟ نعم، إذا كان من نحاسبه موظفا عموميا أو مسئولا تولى منصبه ليحقق أهدافا محددة فى وقت محدد بطرق ووسائل وشروط نستطيع نحن أصحاب المصلحة أن نراقب أداءه، وأن نسائله لنفهم ما يجرى فى دائرة عمله ونتأكد من يقظته ونزاهته وصحة توجهاته. نحن نجعل التجنيد إجباريا لنحمى أنفسنا ونحذر أعداءنا. ونجعل التعليم إلزاميا لنرسم فى الحاضر صورة المستقبل. ونوقف شرطى المرور فى مفترق الطرق يراقب السيارات ويوقف منها ما يرى ضرورة إيقافه ليتأكد من توافر شروط السلامة . رخصة القيادة موجودة، ومدة سريانها صالحة، وأنبوبة إطفاء الحريق جاهزة، وقائد السيارة منتبه ملتزم، فاذا ارتاب الشرطى فى شيء تصرف بما يمنع وقوع الحادثة التى يمكن أن تكون كارثة. وكما يؤدى شرطى المرور واجبه فى الشارع يؤدى نواب الأمة واجبهم فى البرلمان. يراقبون الحكومة، ويستجوبون الوزراء، ويحاسبون المسئولين عن وقوع الحوادث قبل أن تقع.