إنّ ما يربط مصر بإفريقيا أعمق من مجرد بُعديْ الامتداد الجغرافى والنيل بكثير؛ لأنّ جوهرالعلاقة هو البُعد الثقافى المُتمثل فى خصائص ثقافية كثيرة جمعتْ بين المصريين وشعوب القارة الإفريقية، من بينها اتفاقهم بالولع بالفن..وهوما تأكد من خلال علم الآثار، حيث التشابه الكبير بين الفن المصرى خاصة والفن الإفريقى عامة، فمن يتأمل التماثيل « سواء لملوك أو لفلاحين» يُدرك هذا التشابه بسهولة. ومن يرد التأكد من ذلك فعليه الاطلاع على مجموعة الصورالتى نشرها المفكرالسنغالى «شيخ أنتا ديوب» فى كتابه «الأصول الزنجية للحضارة المصرية»، الشيء نفسه يجده الباحث على الرسومات المنقوشة على الجداريات..حيث روح الفن واحدة: الملامح، نظرة العيون، الصلابة، الخطوط، الألوان..إلخ. ومن الفن التشكيلى والنحت إلى فن الموسيقي، فإنّ الدارسين المُتخصصين لهذه الفنون أجمعوا على وجود الكثيرمن العناصر المُتشابهة بين الموسيقى المصرية والإفريقية.كذلك يتوقف الباحثون أمام ظاهرة ولع شعبنا المصرى - منذ أقدم العصور حتى لحظتنا الحاضرة فى الألفية الثالثة - بالرقص والغناء ، وهو الولع ذاته لدى الشعوب الإفريقية. أما إبداع الأساطير فهو المجال الخصب الذى يؤكد الكثير من التشابهات بين شعوب القارة، سواء فى الميثولوجيا أوفى الأنثروبولوجيا «علم الإنسان»، وخاصة فى «علم الأنثروبولوجيا المعرفية» الذى هوفرع من فروع الأنثروبولوجيا الثقافية، ومهمة علمائه دراسة أسس العلاقة بين اللغة والثقافة، على مستوى الشعب الواحد.. وعلى مستوى التشابهات بين بعض الشعوب.. وكذلك الدراسات والأبحاث الميدانية التى أجراها بعض العلماء، أمثال جيمس فريزر فى موسوعته «الغصن الذهبي».وقد أشار «شيخ أنتا ديوب» إلى ظاهرة غاية فى الأهمية، وهى أن عددًا كبيرًا من ملوك إفريقيا أطلقتْ الأساطير عليهم اسم «آمون»، وذكر فى كتابه بالنص: إنّ الآنو«الزنوج» حقيقة تاريخية وليسوا مجرد تخيُل أوفرضية للعمل بها. ولنلاحظ أيضًا أنه يوجد حتى أيامنا هذه شعب الآنو فى ساحل العاج الذى يسبق أسماء ملوكه لقب آمون. وكتب أيضًا: إنّ آمون الإله الأعظم، الزنجى فى السودان وبقية إفريقيا بأسرها..هو الإله «المصرى الصرف».. ومن الممكن أنْ نواصل تفسير كل السمات الأساسية المُميزة للروح الزنجية وحضارتها انطلاقًا من الظروف المادية فى وادى النيل. وإذا انتقلنا من علم الأساطيرإلى علم اللغويات، نكتشف صلة القرابة بين اللغة المصرية القديمة واللغات المختلفة التى تتحدث بها شعوب إفريقيا. وفى هذا السياق ذكر«شيخ أنتا ديوب» أنه: بقدر ما توجد صعوبة فى إثبات علاقة بين اللغة المصرية القديمة واللغات الهندو- أوروبية والسامية، بقدرما يسهل إثبات رابطة الوحدة الوثيقة بين اللغة المصرية القديمة واللغات الزنجية. وقد خطرتْ فى ذهن عالم مُتبحر هو «ن. ريش» فكرة المقارنة بين بعض أصول الكلمات باللغة المصرية القديمة وأصول بعضها الآخر التى لاتزال تستخدمها الشعوب الزنجية فى وسط إفريقيا..وقد أثبت بلا مشقة كبيرة أنّ هناك تماثلا تامًا بينها، وهذا الرأى أيّدته الباحثة «هومبورجر» التى أكدتْ وجود صلة قرابة بين اللغة المصرية القديمة واللغات النجرو- إفريقية فى الفصل الثانى من كتابها «اللغات النجرو- إفريقية» واهتمتْ بالأساس على التأثيرالمصرى على اللغات الزنجية، ولتأكيد أهمية صلة القرابة بين اللغة المصرية القديمة واللغات الإفريقية فإنّ «شيخ أنتا ديوب» لم يكتف بإطلاق العبارات الإنشائية، وإنما بحث ما يربط بين اللغة المصرية خاصة والإفريقية عامة من خلال علم اللغويات، فكتب: إنّ المقارنة بين اللغات الإفريقية واللغة المصرية القديمة لاتُفضى بنا إلى علاقات غامضة، بل إلى تطابق فى قواعد الصرف والنحو على نطاق واسع، بحيث لايمكن أنْ يكون ذلك مجرد مُصادفة. ثم ضرب بعض الأمثلة، مثل التشابه فى استخدام حرف النون فى التعبيرعن الماضي، وتصريف الأفعال والضمائر، وأنّ حروف الإشارة واحدة فى اللغتيْن، والمبنى للمجهول تُعبّرعنه نفس البداية «أو» فى اللغتيْن.. ويتم إحلال «اللام» فى لغة «الوُلوف» محل «النونِ» فى اللغة المصرية القديمة..إلخ. ووصل تواضع هذا العالم السنغالى الكبيرإلى أنْ ذكر أنه اعتمد فى دراسته على كتاب عالم اللغويات الكبير «جاردنر» عن النحو الكلاسيكى المصري، وكذلك كتاب «قواعد النحو المصرية» تأليف د. ديرون. أما عالم المصريات والأثرى الكبير«سليم حسن» فقد توسّع فى شرح العلاقة التاريخية بين مصروإفريقيا، فذكر أنّ البحوث العلمية والكشوف الأثرية الحديثة دلّتْ دلالة واضحة لا لبس فيها عند فحصهم الجماجم البشرية - المصرية والسودانية - أنهم وجدوها من سلالة واحدة هى السلالة الحامية.