فى إحدى غرف القلب، توجد دائمًا «روقة»، تلك التى هدمت معبد الحضارة الذكورية، وفتت كل ما كنا ننادى به من أجل المساواة، والدفاع عن حقوق المرأة، لقد كشفتنا «روقة» بل فضحت رغباتنا الخفية فى زوجة ثانية، أو فى بيت خفى لا تراه العيون. وحتى الآن، لا أحد يعرف سر الرعشة أو الارتباكة أو القلق الذى يدهمنا نحن الرجال - فور ذكر اسم الفنانة « نورا»، ليجعل شخصية «روقة» فى فيلم «العار»، تنفجر لتظهر على سطح عقولنا، ويتمدد جسدها فى ساحات قلوبنا. فلم تكن «روقة» مجرد أنثى مشتهاة، بل كانت البنت الجميلة اللذيذة الدسمة المصنوعة من خيطان النور، وقفتها الملكية فى عباءتها أو «قميص نومها الأسود» كعروس بيضاء منجلية لامعة، منتظرة إشارة واحدة من زوجها، كى تنفذ أوامره، إنها العيون التى تجعلك تؤلف المواويل وتنشد المزامير وتصبح وترًا فى عود جسدها. ........................................................ تأمل جغرافيا جسدها المتكنز وكأنه قد وزن بمهارة شديدة فى ميزان الرغبة، كل شيء فيها دقيق ومحسوب، وكل شيء فيها جاذب لدرجة الخوف من الاقتراب منها، إنها المرأة الممتلئة أو بمعنى أدق «مربربة»، مكتنزة، مطيعة، كاتمة السر، لا ترهق زوجها فى المجادلة، وفوق كل ذلك مرحبة بأن تكون فى الظل. لقد قلبت شخصية روقة حال الفتيات وشغلت بال الرجال، واصبحت أمنية الفتيان، فلم تأت فى خنوع زوجة سى السيد، ولم تأت فى عهر شخصيات كثيرة قدمتها السينما، كلا، جاءت شخصية جديدة تماًما. حيث استطاعت «روقة» بكل هدوء أن تعاشق البراءة الفجة مع الشراسة الناعمة، وسط السطوة والشر لتجارة المخدرات دون أن تشعر بذلك. ورغم أن البطولة فى فيلم «العار» ذكورية، لكن « روقة» ومن خلال عدة مشاهد قليلة فى هذا الفيلم سرقت الضوء من هؤلاء العملاقة، كانت دسمة، ومشتهاة، فى حيرتها وقلقها على زوجها « كمال» أو خوفها على فشل عمله، وقلقها منه كرجل، لأنها لم تنجب له. إنه التعبير الشعبى للمكتوب والمقسوم الذى يظهر فى نظرة عيونها القدرية الملائكية العذبة، يطل- هذا التعبير الشعبى المصرى الخالص» من بين شفتين رقيقتين دسمتين قادرتين على تلخيص ما فى قلبها. لقد صنعت «روقة» مشكلة ضخمة فى حياتنا، حيث قدمت نموذجا لن يستطيع أحد تجاوزه حتى الآن، وجعلت كثيرات من النساء يغيرن منها، بل يحاولن التقليل من تأثيرها علينا، ووسط هذه الكراهية، سعت الكثيرات لتقليدها أو استنساخها فنيًا، فجاءت معظم تلك الشخصيات باهتة، ولم تتربع على عرش قلوبنا مثلما فعلت «روقة». فمن منا لم يبحث عن «روقة» ويحلم بها، لكن الذين عثروا عليها قليلون جدًا بل نادرون أيضًا. هذه هى « نورا» التى ولدت بالقاهرة فى عام 1954واسمها الحقيقي: علوية مصطفى محمد قدرى، التى بدأت حياتها الفنية مبكرًا، حيث شاركت فى الثامنة من عمرها فى فيلم «وفاء للأبد» مع عماد حمدى ومديحة يسرى وإخراج أحمد ضياء الدين عام 1962، ثم كانت ضمن بنات الفنان «أمين الهنيدى» فى طابور الفتيات بالمسرحية الشهيرة « لوكاندة الفردوس» عام 1964، كما شاركت فى فيلم «الاعتراف» عام 1965 للمخرج سعد عرفة. ورغم الاشعاع المستمر لشخصية «روقة»، فإننا لم ننتبه، إلى النماذج الأخرى التى قدمتها التى جاءت على نفس المستوى من العمق من الفنانة نورا، خاصة فى «الكيف»، و«جرى الوحوش»، و«أربعة فى مهمة رسمية». إن الأنثى التى قدمتها «نورا» فى هذه الأفلام تظل متغلغلة داخل نفوسنا، ففى فيلم «ضربة شمس» قدمت لنا الفتاة «سلوى» التى لم تفارق حبيبها «شمس» فى رحلته بين شوارع المدينة وضد العصابة الشرسة التى تتلاعب باقتصاد البلاد فى تهريب الآثار، نجدها تحتضنه وهى تركب خلفه الموتوسيكل، أو تجرى معه كى تفر من أفراد العصابة، أو يستند على كتفها عندما استطاع النجاة، وتحتضنه فى النهاية حضنا لن ننساه فى عربة المترو. إن مسكة كف «سلوى» لحبيبها «شمس» كانت كف الطمأنينة، تقبض على يديه وتخبرنا بثقل القبضة إنها لن تتركه، ولن تفارقه مهما حدث، فتظل قابضة على يده وهما يخرجان من عربة المترو، شبه محطمين، ويسيران فى شوارع القاهرة، وهما يشقان غلالة الضباب فى الصباح الباكر على ساحة ميدان التحرير وكوبرى المشاة الشهير. وفى فيلم «أربعة فى مهمة رسمية» لم تكن «بطة» إلا مستوى آخر من «روقة»، هى النسمة المصرية المحببة لنا، التى نستريح فى كنفها، حتى ولو كانت تعيش فى « العربخانة». كانت «بطة» «براَوّية»، وحادة، ولا تطاق، لكن عندما بدأ هذا الغلاف يتلاشى، ظهر «الغصن بان» وبدأت ملامح ذلك البلبل تشدو على غصن حياتنا، تتحدث بخجل، وتحتسى الشاى بدفء، وتشاهد التليفزيون فى قلق. شعرها مهوش فى حنان أنثوى نادرًا أن تراه دون منديل يعصب الرأس ويزيده حدة، تلك الحدة التى كانت فى لسانها عند أول لقاء بينها وبين «عبدالمولى أحمد زكى»، تتحرك غاضبة بوجه خشن ليمامة ضاع منها وليفها، وتلقى الكلمات كغراب ينعق ليل نهار، فتزداد هالتها الأنثوية الرقيقة المحببة لنا، وعندما استطاع - عبدالمولى- إزاحة تلك الغلالة من الشراسة، ظهرت « بطة» المشبعة والنقية، حيث العينان الرائقتنان الممتلئتان بالقلق والخوف والسخط الدائم، وغمازتها المتربعة على خدها الجميل تعكس بهجة العالم. وفى «جرى الوحوش» تعود نورا فى تقديم إحدى زوايا جغرافيا جسدها، فى شخصية «نوسة» الزوجة الجاهلة التى تخشى على زوجها «عبدالقوى- المنجد» من نسمة الهواء، والأرنبة التى تلد له الأبناء، تقدمها بعفوية المرأة، ولؤمها فى خوفها على زوجها، وخشيتها من تقلبات الأيام، كانت حقيقية جدًا وجميلة جدًا بتلك الاكتنازة أو الامتلاء أو القلق الأنثوى الذى نعشقه نحن المصريين. تتحول «نوسة» فى جرى الوحوش، إلى وحش آخر من النكد اليومى، حيث المرأة الجاهلة التى تخشى على زوجها من الهواء الطائر رغم فقره، ورغم عمله المتواضع، والقلق الدائم الذى لا يوقفها شيء، تخشى من كلام الناس على فقرها، وتخشى على زوجها من تأخره ومن سفره، وتزين لسانها بالأمثال الشعبية وتخشى على نفسها وعلى زوجها من الحسد، وتتحول إلى أرنبة تنجب كل شىء: الأولاد والنكد اليومى والزعيق والقلق غير مبرر، وبالطبع تغلف كل ذلك فى عباءة من الحسد المصرى العتيق الذى يخشى من خبطة الباب ومن تغير الأحوال. ورغم عدم دلالة اسم «نوسة» زوجة «عبدالقوى- المنجد» فى «جرى الوحوش» غير البعد الشعبى للاسم، إلا أنها كانت «كطبق طرشى غارق فى الدقة» وحاجة بلدى تفتح النفس ولكنها تحمل كل جينات النكد فى آن واحد. وفى مسلسل «وأدرك شهريار الصباح» المأخوذ عن ترويض النمرة لشكسبير، تقدم لنا نورا دور «مشيرة»، ولكنها كانت ذكية، فهى لم تقدم الشراسة أو القبح الأنثوى، بل قدمت هذا الدور بطريقتها هى، أى بشراسة مصرية خاصة، ومستوى ثقافى تعيش فيه، دون صوت عال أو اندفاع غير مبرر، فقد قدمت «نورا» البعد النفسى لهذه الشخصية، وهو قلقها من زواج والدها، وبالتالى رفضها لأى رجل، وعدم ثقتها بهم، لذا فإن الكوميديا التى جاء بها الدور، على غرار الكوميديا التى قدمتها «لبنة عبدالعزيز» فى فيلم «آه، وآه من حواء» أمام رشدى أباظة فى رائعة فطين عبدالوهاب. أن «نوسه» الجاهلة بقلقها الشعبى، أو «مشيرة» الشرسة بأرستقراطيتها، أو «بطة» الحادة بقلقها وفقرها، أو «سلوى» بطموحها وحبها، هى وجوه أخرى ل «روقة»، التى لن تتكرر. وللأسف، فذات مساء مصبوغ بالحزن الصبيانى القديم، تعتزل «نورا» السينما والظهور على سطح شاشتنا، وتتركنا لنساء يمتلئن جسدهن بنبات الهالوك وأشواك نبات العقول والجمال المصطنع دون أى بعد شعبى أو عمق وجدانى للأنثى، ولا يزال رحيلها أو إختفاؤها أو اعتزالها الفن عام «1996» صدمة كبرى لنا. ويعود ذلك إلى أن «روقة» أظهرت جدعنة بنت البلد الحقيقية، أو كما يقولون، لم تكن «روقة» أنثى نشتهيها فقط، بل كانت عالما كاملا من كل شيء نريده، ونحلم به، ولا نستطيع تحقيقه. ستظل «نورا» أنقى وجه وأرق ابتسامة عرفتها السينما المصرية، وكقصة قصيرة مصرية جدًا، ودسمة جدًا، وبريئة جدًا، ونادرة جدًا، وخالدة جدًا أيضًا.