أشرت فى مقالى السابق الى مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية, الذى سعدت بزيارته قبل أيام كأحد المراكز القليلة فى العالم التى تعنى بإعادة إدماج الجهاديين او المستفيدين كما يطلق عليهم المركز. وتقوم فكرة المركز على عدم الإكراه بالمناصحة، بحيث يبقى للمستفيد، كامل الحرية فى اختيار الذهاب للمركز من عدمه. ومجرد التفكير فى الذهاب الى المركز هو فى حد ذاته نصف العلاج من التطرف، وبداية الشك فى الأفكار المتشددة، وهو الشك الذى يكون مدخل المركز من أجل تأكيده، ومن تم تفكيك الخطاب المتطرف والرد على الشبهات، التى كانت تمثل، حتى وقت قريب، قناعات لدى المستفيد، وهى ذات القناعات التى دفعته للانضمام الى جماعة متطرفة او الانخراط فى عملية إرهابية. تقوم استراتيجية مركز المناصحة على ثلاث عمليات أساسية، وهي: عمليات المناصحة، وهى تهدف الى المعالجة الفكرية من خلال تصحيح الافكار المنحرفة لدى الفئات المستهدفة بما يتوافق مع وسطية واعتدال الدين الاسلامي. ثم عمليات التأهيل، وهى مرحلة وسيطة ما بين السجن والمجتمع، وهى تهدف الى إكساب المستفيدين ما يحتاجونه للاندماج فى المجتمع. واخيرا، عمليات الرعاية، وهى تشمل مرحلة ما بعد الإفراج عن المستفيد وتهدف الى تعزيز فرص اندماجه فى المجتمع. تقوم عمليات المناصحة على برنامج علاجى يشمل: المناصحة الفردية، وهى عبارة عن جلسات حوار فردية مع النزلاء داخل السجون. ثم الدورات العلمية، وهى عبارة عن محاضرات تدار من قبل أعضاء لجان المناصحة لعدد من النزلاء فى دورات علمية ممنهجة داخل السجون. والمناصحة النسوية وهى عبارة عن جلسات حوار فردية مع بعض النزيلات داخل السجن تدار من قبل العنصر النسائي. اما عمليات التأهيل فهى تقوم على مجموعة من البرامج المعرفية والتدريبية والثقافية والرياضية المهيأة لاندماج المستفيد فى المجتمع وتحفيزه على تنمية قدراته ومهاراته وتثقيفة، والحفاظ على صحته وبناء شخصيته المستقلة المتزنة. ومن أجل تحقيق ذلك يضم المركز مرافق صحية ورياضية وترفيهية متنوعة، ويقدم خدمات مختلفة للمستفيدين، تعتبر عنصرا حيويا فى الإسهام فى نجاح برامج المركز وتحقيق أهدافه فى إعادة الإدماج. ومنها خدمات الضيافة، من استقبال وإعاشة وخدمات صحية وغيرها، ثم الحق فى الزيارات والإجازات، بما فيها التواصل الأسرى والخلوة الشرعية والزيارة فى المناسبات والاعياد، بالإضافة الى خدمات عامة تشمل التعليم واستخراج الوثائق وفتح حسابات بنكية وغيرها. أما عمليات الرعاية، فهى تقوم على مجموعة من البرامج التى تقدم للمستفيد بعد تخرجه من المركز، وتشمل الخدمات الصحية والاجتماعية والتعليمية والوظيفية والمعونات المادية للمستفيدين وذويهم. وتشمل عملية الرعاية ايضا برنامجا خاصا بالرعاية الاسرية وهو يهدف الى تعزيز دور الاسرة فى تحمل مسئوليتها الاجتماعية تجاه ابنها المستفيد، والإسهام فى الحفاظ على استقامته الفكرية والسلوكية، وبرنامجا اخر لرعاية المستفيدين وهو يهدف الى مساعدتهم على تجاوز ما قد يواجههم من مشكلات فكرية ونفسية واجتماعية واقتصادية، وبرنامجا ثالثا خاصا بالتكيف والاندماج، وهو يقوم على تقديم الدعم للمستفيد الذى يعانى مشكلات تعيقه على التكيف والاندماج فى المجتمع بعد خروجه من المركز. بهذه الاستراتيجية ثلاثية الأبعاد، يخضع المستفيدون داخل المركز لجلسات مع مختص شرعى ونفسى واجتماعي، يتم خلالها إقناع كل مستفيد بالقيام بأبحاث للبحث عن الحقيقة، ويعتمد المركز بشكل أساسى على الفن التشكيلى للتعبير عما يجول فى خاطر المستفيدين. ويتم تأهيل هؤلاء خارج المركز للتعامل مع الأبناء والزوجة والاسرة بعد عودته للحياة الطبيعية، وأيضا تأهيله لاستيعاب وامتصاص ما يمكن ان يواجهه من مشكلات وإحباطات وكيفية التعامل معها بشكل إيجابي. وقد استفاد من عمليات المركز، منذ تأسيسه عام 2004، 4096 شخصا، منهم 123 من معتقلى جوانتانامو. وبلغت نسبة النجاح، حسب الارقام الرسمية، 80%، بينما سجلت بعض حالات العود، لكنها تبقى قليلة جدا بالمقارنة مع نسبة المستفيدين. لا شك أن تجربة مركز المناصحة فريدة يمكن البناء عليها وتصدير جوانبها المضيئة للعالم، فى وقت أصبح فيه خطر المقاتلين العائدين من سوريا والعراق يقض مضجع صناع القرار. فالسجن وحده لن يكون الرادع، ورفض بعض الدول عودة مقاتليها لن يكون حلا ايضا، إنما تبنى خطة متكاملة لإعادة الإدماج يبقى هو الخيار الذى لا بد من خوضه رغم مخاطره ورغم تكلفته. إن التعامل مع قضية بالغة الصعوبة والتعقيد كقضية الإرهاب، وإعادة إدماج أشخاص يمكن أن يمثلوا خطرا داهما على مجتمعهم، هى محاولة لا بد من خوضها، رغم ما يمكن ان يقال عن نسب نجاحها أو فشلها. المهم هو أن تتطور مثل هذه المحاولات مع ما يتكشف من دروس من واقع تجارب، مثل تجربة المناصحة، بحيث يتم دوما البناء على الإيجابيات والعمل على تلافى السلبيات فى سياق عملية تراكمية ومتواصلة من الأهمية بمكان أن تصل الى منتهاها. لمزيد من مقالات ◀ وفاء صندى