مازال الحديث متصلا عما يشهده الشارع المصرى بصفة عامة والجامعات على وجه الخصوص من أعمال ارهابية تُرتكب بحق المصريين سواء أكانوا من رجال الشرطة والجيش أم من المواطنين. ومازال الحديث متصلا فى البحث عن آليات المواجهة بمرحلتيها السابقة واللاحقة، فالأولى تعنى منع ارتكاب الجريمة, فى حين الأخرى تعنى معالجة التداعيات المترتبة عليها. ومما لا شك فيه أن الحديث عن كيفية مواجهة الارهاب الاسود الذى تواجهه مصر منذ الثلاثين من يونيو وحتى اليوم وإن تراجعت معدلاته وانخفض مستوى أدائه، انصبت فى أغلبها على المواجهات الأمنية اعتمادا على الأداة الشرطية والعسكرية فى التعامل مع مرتكبيه. وإذا كان مقبولا أن يكون هذا التعامل مع العمليات الارهابية المرتكبة فى سيناء وعلى الحدود المصرية منصبا فى المقام الأول على التعامل الأمنى بشقيه العسكرى والشرطى، وهو ما قد يكون مقبولا أيضًا فى التعامل مع بعض الحالات داخل المجتمع كما حدث مع عزبة شركس ومن قبله فى كرداسة، إلا أنه من الأفضل أن يقتصر التعامل مع العمليات الارهابية داخل المجتمع على الأداة الشرطية فحسب مع اعتماد أدوات وآليات أخرى مجتمعية لضمان نجاح المواجهة دون وقوع أي تجاوزات، ولعل أبرز الأدوات المجتمعية نشر الوعى المجتمعى لدى ابناء المجتمع كافة بشأن كيفية مساندة الشرطة فى مهمتها، فضلا عن الدور الذى تلعبه أجهزة الاعلام والثقافة والتربية وخلافه فى هذا المضمار كما سبق وأشرت إلى ذلك فى مقالات سابقة. لكن، يظل جانب مهم من المعالجة يحتاج إلى مزيد من الاهتمام والتركيز خاصة من جانب الدولة ومؤسساتها العقابية، ذلك الدور المتمثل فيما يعرف ب»التأهيل والمناصحة (النصح)»، يعنى هذا الدور أن يكون ثمة تصحيح حقيقى تقوم به المؤسسة المسئولة عن معاقبة هؤلاء الارهابيين أو الذين تبنوا الفكر الارهابى، ويقصد بذلك تحديدا القيام بعملية مناصحة داخل السجون بغية تصحيح فكر الشخص طبقا لمبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية السمحاء حتى يدرك أنه أخطأ، والقيام بتعديل ايجابى فى نفسيته دون تشديد أو مغالاة وذلك تحت شعار أن «مواجهة الفكر لا تكون إلا بالفكر». واذا كان معلوما أن السجون المصرية تقوم بهذا الدور فى الواقع العملى، إلا أن الفكرة المطروحة والتى تستوجب امعان النظر فيها من جانب وزارة الداخلية وخاصة قطاع السجون، أن يكون ثمة مركز متخصص تابع للوزارة يتولى القيام بدور المناصحة والتأهيل، وذلك على غرار التجربة السعودية فى هذا الخصوص، حيث كشفت التجربة بعد فترة من التطبيق العملى عن أن مفعول المركز الايجابى أكبر بكثير من تأثير السجن، حيث إن السجن له نظام محدد يقيد حرية الشخص طبقا لضوابط عملها، ولكن عمل المركز يتسم بالمرونة مثل المراكز العالمية المتطورة المتخصصة بالتأهيل (رغم اختلاف مسارها وأهدافها والغاية من إنشائها)، ففى المركز يمكن للموقوف على سبيل المثال خلال فترة تأهيله إكمال دراسته ولقاء أسرته والجلوس معهم يوما كاملا ومشاركتهم أحزانهم وأفراحهم، إضافة إلى تنظيم برامج رياضية وترفيهية وثقافية، ناهيك عن تنظيم زيارات ميدانية إلى مناطق مختلفة بهدف دمجهم فى المجتمع بصورة تدريجية. وجدير بالذكر أن مجلة فورين بوليسى الامريكية كانت قد أشارت فى تقرير لها نشرته عام 2010 بشأن تقييم هذه التجربة أنه منذ بدأ عمل لجان المناصحة عام 2004 لتتحول إلى مركز «محمد بن نايف للمناصحة والرعاية» عام 2006، نجحت فى إعادة تأهيل 300 شخص من بينهم 100 من معتقلى جوانتانامو تم الإفراج عنهم، وأن نحو 80% أصبحوا الآن أعضاء أسوياء فى المجتمع. ماذا يعنى ما سبق؟ يعنى أنه من المهم البحث عن آليات عملية لمواجهة الارهاب من جذوره من خلال استيعاب كل من وقع فى فخ التضليل فى فهم الشريعة الإسلامية الغراء، مع العمل على إعادة دمجهم فى المجتمع، وتصحيح مفاهيمهم من خلال الوصول إلى مستوى فكرى آمن ومتوازن لهم ولمجتمعهم بمناقشة جوانب مهمة يقع كثيرون بسببها فى كثير من الخلط والتضليل منها:التكفير، الولاء والبراء، البيعة، الإرهاب، القوانين الفقهية للجهاد...الخ، أخذا فى الاعتبار أن دور هذا المركز لا يعنى الغاء العقوبة القانونية على مرتكبى الاعمال الارهابية، بل يتمثل دوره فى المرحلة الإجرائية الأخيرة قبيل إطلاق سراحهم، مع امتداد هذا الدور إلى ما بعد خروجهم من خلال توفير فرص عمل لهم بما يساعدهم على استعادة توازنهم النفسى والمجتمعى، وينقذهم من الوقوع مرة أخرى فى براثن هذا الفكر التكفيرى والتضليلى. وغنى عن البيان أن دور هذا المركز يجب أن يظل اختياريا، بمعنى ألا يتم إجبار أحد على دخول المناصحة، فالأمر متروك لمن يرغب بإصلاح فكره، فلا يجبر أى إنسان على قناعة معينة، بل يجب أن تكون لديه قناعة نفسية ذاتية وبُعد معرفى مستنير يصل من خلاله إلى تصحيح أفكاره. خلاصة القول إن ما حققته التجربة السعودية من نجاح ربما يظل دون المأمول والمنتظر، إلا أنها تمثل تجربة رائدة يمكن الاستفادة منها والعمل على تطبيقها فى سبيل المعالجة الفكرية للإرهاب، خاصة إذا ما امتدت أنشطة هذا المركز وبرامجه إلى أسر المستفيدين منه، حيث ترتكز فلسفة المركز فى جزء منها على التركيز على دور أسر هؤلاء إلى جانبهم فى إحراز التقدم المنشود، مع الأخذ فى الحسبان أن أي أعباء أو تكاليف قد تتحملها الدولة فى سبيل انجاح هذا المركز تظل دون التكلفة المرتفعة التى يتحملها المجتمع والدولة معا بسبب ما قد يرتكبه هؤلاء من أعمال إرهابية تذهب ضحيتها أرواح أبرياء ويخسر بسببها المجتمع خيرة أبنائه وتفقد الدولة نتيجتها كثيرا من مصادر دخلها سواء بسبب الدمار الذى يصيب مؤسساتها أو بسبب توقف أنشطتها الاقتصادية المختلفة. لمزيد من مقالات عماد المهدى