من المستحيل ادعاء أن نهضة أى أمة تكون بمجموع سكانها. فالأمم تنهض بالصفوة أو العصارة أو النخبة الأمينة القوية الفتية الخبيرة فى كل مجالات ومناحى الحياة الدينية والعسكرية والاقتصادية والتعليمية والصحية والثقافية والاجتماعية. وهذه النخبة تقود باقى فئات المجتمع وتوجهه وترشده، فهى القاطرة التى تجر وراءها باقى العربات، وهى المنارة التى تهدى كل من ينتمى إليها. وعافية أى مجتمع يمكن الحكم عليها من خلال تلك النخبة، فهى بمثابة الرأس والدماغ الذى إن صَلُح صَلُح باقى الجسد، وإن فَسُد فسُد باقى الجسد. فهى كالراعى الذى يحوط قطيعه، يرد الشارد منه، ويُقَوم إعوجاج المُعوج منه، ويأخذ على يد الفاسد والمعتدى، ولقد علمنا القرآن الكريم أن الحكم على قوم لا يكون بمجموع الأفراد، بل يكفى أن تنظر إلى حال الملأ كما يسميهم القرآن وهم الصفوة أو كبار القوم والعظماء والسادة وأصحاب الحظوة والمال والجاه، يكفى أن تعرف حال هؤلاء من حيثُ الفساد أو الصلاح، من حيثُ الميل مع الحق أو حب الباطل، من حيثُ الإيمان والكفر لتعرف حال باقى أفراد المجتمع، وإن ظلت هناك استثناءات لا تكسر القاعدة. فمن خلال ردود الملأ على الأنبياء الذين قص الله قصصهم فى القرآن ظهر حال كل القوم. وحكى الله عز وجل رد الملأ من قوم نوح على نوح عليه السلام: ( قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ )"الأعراف:60" ورد الملأمن قوم عاد على هود عليه السلام: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) "الأعراف 66" ورد الملأ من قوم ثمود على صالح عليه السلام : (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) "الأعراف 75"ورد الملأ من قوم مدين على شعيب عليه السلام: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) "الأعراف: 88 "ورد الملأ من قوم فرعون على موسى عليه السلام: (قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) "الأعراف:109". ولما استشارت بلقيس ملكة سبأ فى أمر سيدنا سليمان عليه السلام، شاورت الملأ: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ) "النمل: 32". والناظر لأحوال الغرب وأحوالنا لا يمكن أن يُرجِع –إذا كان منصفا- كونهم من دول العالم الأول ونحن من دول العالم الثالث فى التقدم العلمى والتكنولوجى والصناعى والزراعى والتجارى والتعليمى والعسكرى إلى أنهم أذكى عقولا أو أطهر قلوبا. فلو كان ذلك حقا فلماذا يتفوق من يُسافر منا إلى الغرب، ويعيش فى أجواء مختلفة ويصل لمكانة علمية عالمية فى كل المجالات؟. فالأمر ببساطة لا يعدو أن يكون التوفيق فى اختيار نخبة وصفوة يمكن القول إنها عصارة تلك المجتمعات ووضعها فى الصدارة وتكريمها وتوفير البيئة الصحية لها لكى تُبدع وتقود وتنتج من أجل مجتمعاتها. ومع توفير وتذليل كل العقبات أمام تلك العصارة كان هناك عنصر آخر لا يقل أهمية وهو جعل تلك النخب تعمل بروح الفريق وليس فرادى أوفى جزر منعزلة. فالأفكار عندما تتعدد وتتلاقح وتمر عبر عديد من الفلاتر العقلية المتخصصة تأتى بنتائج مبهرة لا تُقارن أبدا بالنتائج الباهتة والفاترة والناقصة التى يأتى بها العمل الفردى مهما كانت درجة ذكاء ومهارة صاحبه. ويُضاف إلى ذلك عمليات النقد والتنقيح لكل الأفكار بغرض الوصول للكمال لا بغرض التجريح والتشنيع وقتل مواهب الآخرين. فقد ارتقى الغرب علميا لما بحث عن المواهب وكرمها، فهم عرفوا قدر الصفوة ورفعوها لمكانتها اللائقة فارتفعوا جميعا، ونحن بخسنا حق الصفوة وأنزلناها عن مكانتها العالية فانحططنا. ويكفى للتدليل على ذلك أن من بين السيناريوهات التى ترددت عن أسباب انهيار الاتحاد السوفيتى أن الغرب استطاع تجنيد آخر رئيس للاتحاد السوفيتى وهو ميخائيل جورباتشوف، فتولى الرجل تدمير الإمبراطورية الضخمة. وقيل أيضا إن جاسوسا لهم كانوا يضعون أموالا باسمه فى بنوك غربية ليس من أجل أن يُمدهم بالمعلومات العسكرية أوالاقتصادية، بل من أجل أن يختار بحكم منصبه الكبيرفى الحزب الشيوعى آنذاك أشخاصا فاسدين وعديمى الخبرة فى كل مفاصل الدولة ليتولوا بفسادهم وإمكانياتهم الضعيفة جر باقى قطاعات المجتمع للفساد والضعف. [email protected] لمزيد من مقالات عبد الفتاح أنور البطة