فى معالجات واقعنا الإعلامية، يضع سيناريوهات المشهد الإنساني، مجموعة من (خبراء عصر جحا)، الذين شكلوا برؤاهم الفذة توجهات تعاطى الرأى العام فى الحادثة الشهيرة التى تشارك بطولتها مع (جحا) كل من ابنه وحمار، وحملت سيناريوهات الواقع (جحا) على أن يتخلى لولده عن ركوب (الحمار) حتى ينجو من اتهامه بعدم الرحمة، غير انه لم يلبث أن اكتشف أن أصواتًا تعتبر من غير الأدب أن يركب الابن وسير الأب، وعندما استجاب (جحا) لهذه الأصوات وحمل ابنه على المشى فيما اعتلى هو الحمار، سرعان ما تناولته ألسنة النقد لأنه تخلى عن حسن تأديب ابنه حتى ركب هو دابته فى حضرة أبيه، وعندها قرر (جحا) أن يسير مع ولده وبينهما الحمار ليكتشف أن قطاعا عريضا من الجمهور يراه كافرًا بنعم الله عليه إذ يسير على قدميه تاركًا دابته، وهكذا ساق خبراء الرأى العام (جحا) إلى حلٍ فريد تمثل فى أن قرر أن يحمل مع ولده الحمار ويسيران به وسط الجمهور الذى أكد خبراؤه أن (جحا) قد أصابه الجنون الصريح!. وفى معالجات مشهد الآن يحملنا إعلام العالم الذى استحال قرية صغيرة إلى حادثة تتبع واحدة من برلمانيات تنظيمات الدين الإسلامى السياسية فى المغرب، وفى إطار حالة الصراع السياسى الدائرة مع حزب (العدالة والتنمية) الحاكم تم تتبع البرلمانية ولقبُها (ماء العينين) حين كانت فى رحلة إلى باريس، حتى حظيَ المُتَتَبِع بصيده الذى تمثل فى (صورة لماء العينين بشعر مكشوف وذراعين عاريتين)، وعبر وسائل الإعلام المجتمعية بدأ الصائد حملته لصيد أوسع عبر طُعْمٍ تمثل فى صورة، واستحال الرأى العام مجموعات من الخبراء مسيسى الرأى والأطروحات، واشتعلت وسائل التواصل الاجتماعى بآراء باعثها ليس الانتصار للحجاب وإنما معارضة حكم التنظيم الذى تنتمى إليه هذه النائبة، وآراء ثانية تُدافع عن خلع البرلمانية للحجاب وتشرع له تنظيميًا وتؤصل لموقفها شرعياً ليس إيمانًا بحرية الزِيّ وإنما تأييد لحكم التنظيم الذى تنتمى إليه ذات النائبة، وآراء أخرى تؤيد ما صنعت النائبة ليس يقينًا بأنها مارست حقها وإنما سعياً لاستيعاب المُختلفات مع التنظيم فى الآداءات الشكلية. وعبر سعيٍ يستهدف معالجة مشهد حجاب (ماء العينين)، كان لابد من قراءة عميقة لصورة البرلمانية التى بدت فى خلفيتها لافتة المسرح والملهى الفرنسى الأشهر (مولان روج)، حيث تقف هى على رصيف مقابل ترتدى بنطلونا و (تيشيرت) قصير الأكمام أبيض وتعلق حقيبة بسيطة على كتفها فيما تفرد ذراعيها جناحين إلى جوارها وترتسم على شفتيها ابتسامة متصالحة مع داخل يحاول الابتسام. هذه الصورة المتاحة عبر محركات البحث الإلكترونية، إلى جوارها تظهر صورة للنائبة قبل سفرها لباريس، صورة تم التقاطها فى أحد المنتديات الوطنية، كانت على منصة الحدث متحدثة، ترتدى عباءة من صنع ماكينة تنظيمها الذى أوصلها لعضوية برلمانية، عباءة ترتديها كل قياديات التنظيم التقليديات، ومثلها حجاب لرأسها تعقِدُهُ أسفل ذقنها بقليل. بمجرد معالجة إنسانية للصورتين، يمكن بسهولة الوقوف على حجم المأساة الإنسانية التى يعيشها إنسان عالمنا المسلم فى عالم تمكين تنظيمات الدين الإسلامى السياسية من الحكم، حيث يتحول الإنسان إلى مجرد عنصر محفز فى معادلة مدخلاتها التأييد أو المعارضة للحكم بغض النظر عن المصير الإنساني، وهكذا يتحول الجمهور بنخبته إلى قُضاة فى مشهد (جحا) الهزلى القديم، فيما يتم غلق كلُ نافذة يمكن أن تفتح على غد أكثر إنسانية، هكذا وجدت (ماء العينين) قميتها حرة دون قيد زي، وراحت تمارسها وتجسدها فى نظراتها أمام (مولان روج)!، ولكن من قرر اصطيادها واصطيادنا من بعدها، كان يعلم أننا أمة أدمنت شعاراتها وقود خلاف يقود للإقصاء لا اختلاف يقوى دعائم البناء، وبالمناسبة تجاوزت تنظيمات التطرف والإخوان فى القلب منها فكرة الحجاب التى صنعوها فى مراحل سابقة ليؤكدوا بها حضورًا يؤهل للتمكين، وصار عليهم الآن أن يتعاملوا مع واقع وعيٍ جديد لن يختصر الدين فى مظهر، وبالتالى عندما عادت (ماء العينين) إلى أحضان تنظيمها الذى استلب وعيها وفرض عليه حجابه، كان عليها أن تختار بين العودة إلى شارعٍ بنخبته- قديم الأفكار مع خسارة مكاسبها ومكانتها، أو تكتفى بما ذاقت من حرية فى براح (مولان روج) وتستغفر التنظيم لما صنعت وتعود لأحضانه فيما يبقى داخلها محبوسًا ماءُ عينين كاد أن يتفتح عيونًا على حياة تقدسها الأديان كلها والإسلام فى قلبها، ارتضت (ماء العينين) أن تنصاع لرغبة جمهور (جحا) ومعه التنظيم، وارتضينا أن نسكب ماء أعيننا على من تخلع الحجاب أو ترتديه مناقدين لكلٍ متاجر بماء العين، وصار على كل صاحب موقع فى التأييد أو المعارضة أن يتمسك بموقعه بغض النظر عن سؤال المصير (هل حجاب العينين يؤهل للرؤية؟!). لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى