منذ عصر النهضة حتى الآن، مرت أوروبا والغرب عموما بعمليات تحديث ناعمة وخشنة، تخللتها حروب وعنف وإبادة وثورات، أفضت فى النهاية إلى مجتمعات تضع أقدامها على شواطئ الحداثة والعقلانية والديمقراطية، تراعى حقوق الإنسان عمادها اقتصاديات منتجة عفية، أنجزت تطوّرها الاقتصادى، من خلال الثورة الصناعية والنهب الاستعمارى لثروات الشعوب، لضمان تدفق المواد الخام والعمال العبيد، والاستحواذ على الأسواق والمستهلكين. اليوم، تنتقل المجتمعات الغربية من مرحلة الحداثة الصلبة، إلى الحداثة السائلة، بتعبير زيجمونت باومان عالم الاجتماع والفيلسوف البولندى الشهير -تمر هذه الأيام الذكرى السنوية الثانية لرحيله- أحصى باومان بعض سمات (الحداثة السائلة) -عنوان أول كتبه- فالتغير هو الثابت، اللايقين هو اليقين، السيولة تضرب القيم والأشياء: الأخلاق، السياسة، الاقتصاد، فتنفصل القدرة (ما نستطيع فعله) عن السياسة (ما يتوجب علينا فعله)، وإذا كانت الحداثة الصلبة هى مرحلة الإنتاج والتطور الذى تتحكم به الدولة، فالحداثة السائلة هى مرحلة تخلى الدولة عن دورها وفتح السوق أمام الرأسمال الحر والاستهلاك، دون هدف، سوى مزيد من إشباع الرغبات، إنها باختصار حقبة الرأسمالية النيوليبرالية. وفيها تقوم الولاياتالمتحدة، بقيادة ترامب، بابتزاز الآخرين، بالقوة إن لزم الأمر، مع العودة إلى الحمائية والنزعات الانعزالية، تنخرط فى تنافس شرس للهيمنة على الموارد والأسواق الخارجية، ومحاولة عرقلة المنافسين، لاسيما الصين، أو منع دّول بعينها من صعود السلم التكنولوجى أو الصناعى، مما يشكّل منافسة واستقلالا غير مقبولين. إن الهيمنة الغربية على دول الشرق الأوسط ومحاولاته المتواصلة لنهب ثروات العرب واختطاف قرارهم، مثال بالغ الوقاحة والشدة. وقد رصد باومان مثالا آخر لهذا النمط: الاستعلاء والتصرفات الأوروبية الفجة تجاه اللاجئين فى القارة العجوز، ومطالبتهم بالتخلى عن هوياتهم الأصلية وتقمص الثقافة الأوروبية، بكل صلافة، واعتبره باومان (النسخة الحديثة من آكلى لحوم البشر)، مشيرا إلى أن أجداد الأوروبيين كانوا فعلا من آكلى لحوم البشر، ومن ثم تأتى ممارسات أحفادهم نسخة حديثة من تلك الوحشية، فى هذه السياقات. إن أبحاث باومان تفتح نافذة جديدة لفهم مآلات الظواهر السياسية والاقتصادية فى العالم المعاصر، لاسيما فى البلدان العربية التى يعانى معظمها (ولادات متعسرة) على مدى القرنين الماضيين، وأفضت تجربة التحديث فيها إلى أنظمة سُلطوية وعنف سياسى وطائفى متجذر، وانهيار واسع لبنى الدولة والمجتمع بشكل كبير، ولو تغاضينا مؤقتا عن أنها مجتمعات لم تمر بثورات صناعية أو مخاضات اجتماعية كبرى، فإن العجز العربى المستديم عن بلوغ عتبة النهضة والاستمرارية فى مساراتها، يعود الجانب الأكبر منه إلى بسط القوى الدولية هيمنتها على العالم العربى. إن الحدود السّياسيّة للدّولة العربيّة الراهنة هى تركة استعمارية، صممها لتكون تابعة، غير قادرة على إنجاز تنمية أو سيادة، دولة وظيفية، تتغول على أبنائها بالداخل وتخفر خجلا أمام الخارج، بحيث يمكن القول إن مسئولية الاستبداد العربى تقع على الغرب الاستعمارى الذى دأب على دعم الديكتاتوريات ما داموا يخدمون سياساته، وبات العجز والطغيان آفة يتفرد بها الشرق العربى، كذلك لا ينبغى أن ننسى زرع الكيان الصهيونى بالأرض العربية. ومن أخطر نتائج ذلك أن صارت الطبقات النافذة فى كثير من بلاد العرب شرائح كمبرادورية تابعة للغرب، فاقدة للسّيادة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، تعمل على كبح المشروع النهضوى الوطنى المستقل، وتعطيل التنمية الداخليّة لصالح فتح الأسواق أمام الخارج، لعدم وجود إنتاج محلى، مع الارتهان للمساعدات والمعونات، قصور فادح وبنية حضارية مهترئة تكشف عنها حالات الاهتراء والأزمات المستفحلة المزمنة أو المستجدة من المحيط إلى الخليج. وأمام تداعيات (الحداثة السائلة) عالميا وعربيا، لاجدوى من البكاء على اللبن المسكوب، بل المطلوب بإلحاح هو تجفيف منابع اليأس، وإدراك خطورة التحديات ووضع الحلول العملية لمواجهتها، ولو نظرنا إلى دولة كمصر نجد أنها تعانى عواصف، أسهمت فى صنعها أنظمة سابقة، وجماعات متأسلمة عميلة، ودول شقيقة صادقت على إجازة مفتوحة للضمير العربى، وأعداء إقليميون يهددون أرض الكنانة فى مصادر ثرواتها ووجودها.. وهى تعمل على الخروج من قلب العاصفة، ولعل حجر الزاوية لأى مشروع نهضوى متكامل، هو إرساء الحرية والديمقراطية والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية، وحماية الأمن القومى. وتحضرنى، هنا، مقولة للدكتور جمال حمدان: (مصر اليوم إما أن تحوز القوة أو تنقرض، فإذا لم تصبح مصر قوة عظمى تسود المنطقة، فسوف يتداعى عليها الجميع، كالقصعة: أعداء وأشقاء وأصدقاء وأقربون وأبعدون!). [email protected] لمزيد من مقالات د.محمد حسين أبوالحسن