إعلان أسماء الكليات الفائزة بجوائز مهرجان الفنون المسرحية لجامعة الإسكندرية    الجريدة الرسمية تنشر قرارين جمهوريين للرئيس السيسي (تفاصيل)    سويلم يلتقي وزير المياه السنغالي لبحث تعزيز التعاون بين البلدين    تباين أسعار العملات الاجنبية بداية تعاملات الخميس 23 مايو 2024    المالية: الاقتصادات العربية تتحمل تحديات ضخمة للتوترات الجيوسياسية والإقليمية    موسم الحج.. إجراءات عاجلة من السعودية بشأن تأشيرات الزيارة بداية من اليوم    وزيرة التخطيط تبحث تطورات الدورة الثالثة من المبادرة الخضراء الذكية    «الإسكان» تبحث التعاون مع شركات إيطالية لتنفيذ مشروعات المياه والصرف    تداول 15 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة في مواني البحر الأحمر    الضرائب: مستمرون في تقديم الدعم الفني للممولين للتعامل مع منظومة الإيصال الإلكتروني    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الخميس    إعلام عبري: زيادة كبيرة في عدد الجنود الإسرائيليين الجرحى بالمستشفيات    بعد يومين من اقتحامها.. قوات الاحتلال تنسحب من جنين ومخيمها    دفن جثمان الرئيس الإيراني الراحل في مدينة مشهد اليوم    رئيس كولومبيا يأمر بفتح سفارة للبلاد في مدينة رام الله الفلسطينية    البث العبرية: 70% من الإسرائيليين يؤيدون تبكير موعد الانتخابات العامة    ماكرون يبدأ زيارة إلى كاليدونيا الجديدة لضمان عودة السلام الهدوء    جدول مباريات اليوم.. الزمالك وفيوتشر.. طارق حامد أمام الاتحاد.. وشريف يتحدى موسيماني    هل يرحل الشناوي؟ أحمد شوبير يوضح حقيقة تفاوض الأهلي مع حارس مرمى جديد    حبس المتهم بقتل شقيقته في القليوبية    رفض يغششه .. القبض على طالب بالشهادة الإعدادية لشروعه في قتل زميله    الحماية المدنية تنقذ مواطنا احتجز داخل مصعد كهربائي بالفيوم    تفاصيل الحالة المرورية اليوم.. كثافات متفرقة في شوارع القاهرة والجيزة    اليوم.. النقض تنظر طعن المتهمين بقضية ولاية السودان    "سكران طينة".. فيديو صادم ل أحمد الفيشاوي يثير الجدل    نوادي المسرح معمل التأسيس، في العدد الجديد من «مسرحنا»    أول تعليق من دانا حمدان على حادث شقيقتها مي سليم.. ماذا قالت؟    إيرادات فيلم «تاني تاني» لغادة عبد الرازق تحقق 54 ألف جنيه في يوم    فضل الأعمال التي تعادل ثواب الحج والعمرة في الإسلام    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23-5-2024    "علق نفسه في سقف الأوضة".. نزيل بفندق شعبي ينهي حياته في الأقصر    «الرعاية الصحية»: اعتماد مستشفى طابا وسانت كاترين بجنوب سيناء    "محاط بالحمقى".. رسالة غامضة من محمد صلاح تثير الجدل    طلاب الشهادة الإعدادية بكفر الشيخ يؤدون آخر أيام الامتحانات اليوم    تحركات غاضبة للاحتلال الإسرائيلي بعد اعتراف 3 دول أوروبية بفلسطين.. ماذا يحدث؟    أخبار مصر: منع دخول الزائرين مكة، قصة مقال مشبوه ل CNN ضد مصر، لبيب يتحدث عن إمام عاشور، أسعار الشقق بعد بيع أراض للأجانب    اللعب للزمالك.. تريزيجيه يحسم الجدل: لن ألعب في مصر إلا للأهلي (فيديو)    رحيل نجم الزمالك عن الفريق: يتقاضى 900 ألف دولار سنويا    استحملوا النهارده، ماذا قالت الأرصاد عن طقس اليوم ولماذا حذرت من بقية الأسبوع    سر اللعنة في المقبرة.. أبرز أحداث الحلقة الأخيرة من مسلسل "البيت بيتي 2"    هل يجوز للرجل أداء الحج عن أخته المريضة؟.. «الإفتاء» تجيب    رئيس الزمالك: جوميز مدرب عنيد لا يسمع لأحد    أمين الفتوى: هذا ما يجب فعله يوم عيد الأضحى    تسجيل ثاني حالة إصابة بأنفلونزا الطيور بين البشر في الولايات المتحدة    وزير الرياضة: نتمنى بطولة السوبر الأفريقي بين قطبي الكرة المصرية    البابا تواضروس يستقبل مسؤول دائرة بالڤاتيكان    ماهي مناسك الحج في يوم النحر؟    بقانون يخصخص مستشفيات ويتجاهل الكادر .. مراقبون: الانقلاب يتجه لتصفية القطاع الصحي الحكومي    ماذا حدث؟.. شوبير يشن هجومًا حادًا على اتحاد الكرة لهذا السبب    22 فنانًا من 11 دولة يلتقون على ضفاف النيل بالأقصر.. فيديو وصور    حظك اليوم وتوقعات برجك 23 مايو 2024.. تحذيرات ل «الثور والجدي»    حظك اليوم| برج الحمل الخميس 23 مايو.. «طاقة كبيرة وحيوية تتمتع بها»    محلل سياسي فلسطيني: إسرائيل لن تفلح في إضعاف الدور المصري بحملاتها    مراسم تتويج أتالانتا بلقب الدوري الأوروبي لأول مرة فى تاريخه.. فيديو    احذر التعرض للحرارة الشديدة ليلا.. تهدد صحة قلبك    «الصحة» تكشف عن 7 خطوات تساعدك في الوقاية من الإمساك.. اتبعها    البطريرك مار إغناطيوس يوسف الثالث يونان يلتقي الكهنة والراهبات من الكنيسة السريانية    إبراهيم عيسى يعلق على صورة زوجة محمد صلاح: "عامل نفق في عقل التيار الإسلامي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«اللى» بنى مصر
نشر في الأهرام اليومي يوم 05 - 01 - 2019

دخل هارعًا لصالونها تدفعه عفويته ورعونة شرخ شباب فى غمرة السرور ليقول للست: «خلاص جبت عربية».. فقامت لتنظر إليها من الشرفة فلمحتها صغيرة ورمسيس تكاد لا تُبان من بين شجر الرصيف فقالت له ضاحكة: «حلوة قوى يا بليغ.. بس ليه ماطلّعتهاش معاك!».. واستدارت تسأل: «وانت يا محمد معاك عربية؟!».. قال لها: «أنا فى الحقيقة جيت لحضرتك بالتاكسى»، ولما كان ممسكًا بسلسلة مفاتيح يدور عليها بأصابعه رايح جاى ليُخفف من حدة توتره قالت له:
«ولازم دى بقى مفاتيح التاكسى!».. وعلت الضحكات بعدما كسرت أم كلثوم ببساطتها وحضور بديهيتها حاجز الرهبة فى جلستها مع شباب الفن.. الملحن بليغ حمدى 21 سنة، وشاعر الغناء عبدالوهاب محمد 27سنة الذى كان قد ذهب قبلها لبيتها متوجسًا ليحفِّظ إبراهيم خالد ابن شقيقتها الطالع جديد فى مقدر الغناء كلمات أعجبته قام بتلحينها بليغ حمدى، وثلاثتهم زملاء فى معهد الموسيقى..
وأرهفت صاحبة الأذن العطشى سمعها للكلمة والنغمة الحلوة من بعيد لتدخل الصالون وتقول لابن أختها هات لى الكلام ده يا إبراهيم وقول له يكتب لك كلام تانى. وجلست العظيمة تُدندن معهم «حب إيه اللى انت جاى تقول عليه انت عارف قبله معنى الحب إيه لما تتكلم عليه».. ووسط حالة من الذهول وعدم تصديق ما قد جرى، وماذا تعنى له تلك السهرة وروافدها وفيضها وزخمها وخيراتها قام عبدالوهاب محمد يروّح برأس يناطح السحاب وأقدام لا تكاد تلمس الأرض ناسيًا بوصلته، ساهيًا عن وجهته، غافلا عن نوتة أشعاره.. ونام وقام وفاق يدوّر عليها.. عند الحلاق، عند البقال، عند الجرسون، عند اخواته، عند أصحابه.. والتقى بعد شهرين بأم كلثوم مشى فيهما بنصف وحى وبعض عقل لتبادره بالسؤال عن الشيء الذى ضاع منه، فصرخ «النوتة» هنا زفّت إليه أخبارها فأضاءت جميع لمباته.. لقد وقع اختيارها من بين كلماته على «حب إيه» و«أنا وانت ظلمنا الحب» و«حكم علينا الهوى» ليُلحن ثلاثتها بليغ الذى هتف «ضاعت النوتة ورجعت بكنوز سليمان لولى وزبرجد ومرجان... ويحسد الوسط الفنى الشاعر الشاب الذى غنت له أم كلثوم أغنيتين هما «ظلمنا الحب» لبليغ، و«حسيبك للزمن» للسنباطى فى ليلة واحدة فى افتتاح موسمها الغنائى عام 62.. وبعدما ضاع الحب ما بين عِند قلب وقلب غنت أم كلثوم لشاعرنا من ألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب أطول أغانيها على مدى ساعتين «فكرونى» وتسوى إيه الدنيا وانت مش معايا هى تبقى الدنيا دنيا إلا بيك روحى فيك مهما جرى أنا روحى فيك، واللى جوّه القلب كان فى القلب جوّه رحنا واتغيرنا احنا إلا هو، ليه تضيع عمرنا هجر وخِصام واحنا نقدر نخلق الدنيا الجميلة.. ويستدعى عبدالوهاب محمد ذكريات فكرونى «كانت أول أغنية يختارها الموسيقار عبدالوهاب ويلحنها لى قبل أن نلتقى، ومن عادتى كتابة النص بلا علم بمن سيغنيه إلا بعد تلحينه، وكانت أم كلثوم معجبة بالأغنية تحفظ غالبية كلماتها، بل وترددها أمامى، وعندما زارها عبدالوهاب أطلعته عليها فشاركها الإعجاب، وسافر كلاهما إلى الخارج ليلتقيا فى سويسرا لتجده قد قطع شوطًا كبيرًا فى تلحين الكلمات، وبعد عودته طلبنى فى التليفون للدردشة لأفاجأ به يسمعنى ما يقرب من 16 لحنًا للمطلع ويأخذ رأيى فى الأفضل، فوقع اختيارى على إحداها لأنه «وهابى قوى» فترك عبدالوهاب الحديث عن اللحن وتطرق إلى موضوعات أخرى بعيدة تماما عن الفن، وبعدما يقرب من الساعة عاد يسألنى لسّه فاكر حاجة من اللى سمعته؟ طبعًا.. فطلب منى أن أغنيه له، فقلت: أغنى قدامك دى تبقى كارثة! فقال: محدش معانا.. وكان يريد أن يستشف إذا ما كان اللحن قد علق بالفعل بأذنى أم لا.. لم يكن عبدالوهاب أبدًا موسوسًا، ولا متعصبًا لرأيه، وإنما كان يحب قراءة انطباعات الآخرين ومثله أم كلثوم التى لم تغيّر فى كلماتى، وأذكر أن أحد الكتاب قال إنها لو غنت «ريّان يا فجل» فسوف نصفق لها، ويومها لم يعجبها ذلك بل قالت لى لا بل يهمنى المعانى، وأنا لا أغيّر المعنى أبدًا بل قد أغيّر اللفظ، فعندى بعض الحروف أنطقها بغلظة فأهرب منها فى الكلمات، ومن هذه الحروف حرف الشين مثلا فكانت تطلب البعد عنه بقدر الإمكان.. وكان اسم الأغنية فى الأصل «روحى فيك» وكنا ثلاثتنا أم كلثوم وعبدالوهاب وأنا مختلفين على الاسم حتى آخر يوم للتسجيل، وكنت من أصحاب رأى «روحى فيك» نسبة إلى الشطرة التى تقول: «روحى فيك مهما جرى أنا روحى فيك»، لكن آخر ما وصلت إليه الآراء كان «فكرونى»، وقد أعطى عبدالوهاب تكثيفًا جديدًا للكلمات بموسيقاه المتفردة مثلما جاء فى الجزء المصاحب لتساؤل البطل «فكرونى إزاى هو أنا نسيتك»، وتأتى نهاية الأغنية مفتوحة بعدم تكرار البداية كما هو معهود وقتها، فلم تغن ثومة ثانية «كلمونى تانى عنك فكرونى» بل غنت فى النهاية «إنت أقرب منى ليّا يا مُناى» وعلى غير السائد أيضًا من أحزان عاطفية تكمن فى أغانى الحب كانت هناك نظرة تفاؤلية تصاحبها الموسيقى المرحة «القمر من فرحنا ح ينور أكتر، والنجوم ح تبان أجمل وأكبر، والشجر قبل الربيع ح نشوفه أخضر»..
عبدالوهاب محمد (1931 1996) الشاعر الذى أدرك أننا نسينا رقة العاشقين
كان ثرّى الكلمات وجميلها، سلس العبارة وأميرها، ربّان المعانى وبحرها، فاهمًا لطبيعة الأذن العربية التى عرفت حداء الإبل، وتدربت على الشِعر طويلا قديمه وحديثه نظمًا ونثرًا عاميًا وبالفصحى، شاعر مثل عبدالوهاب محمد الذى بدأ بصوت فايزة أحمد فى حلاوته، وانتهى إلى صوت أم كلثوم فى قوته بدءا من «حب إيه» ليمضى معها حتى آخر كلمات تشدو بها «حَكم علينا الهوى» لينقلها من مرحلة البكاء على أطلال الحبيب إلى دنيا جديدة تحاوره فيها وتكلمه وتقبله أو ترفضه.. مثل هذا الشاعر كتب للست من ألحان بليغ «حب إيه» و«أنا وانت ظلمنا الحب»، ومن ألحان الموجى «للصبر حدود»، و«اسأل روحك»، ولمحمد عبدالوهاب «فكرونى»، ومن الأغانى الوطنية «عاشت بلادنا» و«وطنيتنا حماها الله» وكتب لشادية عشرات الأغانى منها «بوست القمر»، و«سونة يا سونسن» و«رنّة قبقابى» و«اتعودت عليه»، و«أنا وقلبى» و«الله يا زمن»، و«مصر اليوم فى عيد»، و«التليفون» التى كتبها عن تجربة شخصية يقول فيها: «مخاصمنى بقى له مدة وفى ليلة الشوق نادانى، كلمته سمعت حسه، وقفلت السكة تانى، إكمنه يا ناس واحشنى وخصامه ياناس حايشنى، بالليل والدنيا ضلمة دوّرت نمرته وسكت ما قلت كلمة وأنا بسمع همسته، قال آلو آلو خدت السماعة بإيدى اليمين بوستها وقفلت السكة تانى»... وكتب لنجاة «تفرق كتير»، ولوردة «معندكش فكرة» و«ايش جاب لجاب» وأغانى مسلسل «أوراق الورد» التى غنت فيه للأطفال «أنا عندى بغبغان غلباوى بنص لسان» ومن تلحين سيد مكاوى «أوقاتى بتحلو معاك وحياتى تِكمل برضاك من أول ما بكون وياك ويا روحى ساعة ما ألقاك»، ولفايزة أحمد «ماتحبنيش بالشكل ده» وبعدها «نقطة الضعف» وفيها «قد ما إرادتى قوية قد ما دموعى أبيّة نقطة الضعف اللى فىّ هى قلبى» وكانت مكتوبة لأم كلثوم من ألحان السنباطى ولكن خلافه معها أخَرَّ الأغنية مرات لتنتهى إلى حنجرة فايزة، وقام شاعرنا بكتابة «الناس المغرمين» لعبدالمطلب، ولماهر العطار «مين يآمن لك مين» ولمحرم فؤاد «تعرف لمّا بقابلك» ولسميرة سعيد «علمناه الحب» و«قال جانى بعد يومين»، وكتب لعفاف راضى «مصر هى أمى» ولميادة «سيدى أنا» ولنادية مصطفى «سلامات» و«جاى فى إيه» ولعزيزة جلال «مستنياك» و«روحى فيك» و«من حقك تعاتبنى» ولأصالة «لو تعرفوا» و«لا تصدق» و«محبش حد إلا انت» وللطيفة معظم أغانيها ومنها «عندك شك فى إيه» و«تصور» و«أرجوك اوعى تغير»، ولم يكتب عبدالوهاب محمد لصديقه عبدالحليم حافظ أى عمل غنائى احترامًا لتجربته الناجحة مع صديقيه الشاعرين مأمون الشناوى ومرسى جميل عزيز، وعندما ألحّ عبدالحليم بعد رحيل مرسى كتب له أغنية بعنوان «حبيبة صديقى» لكنها لأسباب لم تظهر على السطح لم تخرج إلى حيز التنفيذ، وأخلف الوعد معه على الحجار بلا اعتذار فاعتذر عن التلحين له، وقدم للإذاعة أوبريت «قيس وليلى» غناء محمد رشدى وألحان بليغ حمدى عام 61 وبها 50 موالا وفيها قيس لا يصل فى حبه إلى مرتبة الجنون، ولكنه يحب بقوة وعمق والحصيلة أنه لن يتزوج ليلى ليس نزولا على حكم التقاليد ورغبة والدها مثلما كتب أحمد شوقى تبعا للقصة التاريخية وإنما رفضته ليلى بكامل إرادتها، لأنه أساء إلى سمعتها بأشعاره وجعلها مثارًا للأقاويل وليس كما يقول المثل نار على علم، ومن أعماله الغنائية أيضا أوبريت «الأم» غناء هدى سلطان ومدحت صالح وصفاء أبوالسعود وليلى نظمى، و«سيدتى الجميلة» و«ريا وسكينة» بقنبلتها و«ناسبنا الحكومة وبقينا قرايب» التى شدا بها الفنانون عبدالمنعم مدبولى وشادية وسهير البابلى.. وتتذكر الزوجة «خديجة النصيرى» شريكة البيت والحياة والأولاد والفن ومعاناة الزوج المرض العضال على مدى 19 عاما مخاوف زوجها على أغنيته لأم كلثوم «للصبر حدود» التى لم تأخذ حقها فى البداية بسبب منافسة «انت عمرى» لكن مع الأيام ثبتت أصالة الأغنية واستطاعت أن تأخذ مسارها الطبيعى فى النجاح بسبب الكلمات التى ليست ككل الكلمات وألحان الموجى المبدعة، وحفرت الأغنية تاريخًا وحاضرًا فى عالم الطرب: «ولقيتنى وأنا بهواك خلصت الصبر معاك وبأملى أعيش ولو إنه ضيع لى سنين فى هواك وآهى غلطة ومش حتعود ولو إن الشوق موجود وحنينى إليك موجود.. إنما للصبر حدود.. يا حبيبى»..
وتتذكر الزوجة أم «محمد» و«كرمة» دموع فريد شوقى الغزيرة عندما كان زوجها وبليغ حمدى منشغلين فى بروفة أغنية «ظلمنا الحب» وكلماتها التى أثرت فى فريد لدرجة البكاء، فقد كان وقتها فى حالة خصام مع أم بناته هدى سلطان وكان المقطع الذى تجرى عليه البروفات هو: «أنا وانت ظلمنا الحب بايدينا/ وجينا عليه وجرّحناه لحد ما داب حوالينا/ ماحدش منا كان عاوز يكون أرحم من التانى/ وضاع الحب ضاع/ ما بين قلب وقلب ضاع»..
و.. كانت قناعة عبدالوهاب محمد بالغة فى التحريض على عودة العمالة المصرية من الخارج ليكتب أغنيته «سلامات» التى غنتها «نادية مصطفى» فى أوائل الثمانينيات معبّرة عن وجهة نظره تلك حيث يقول «وإذا لقيت فى الغربة المال مش ح تلاقى راحة البال» و«تسوى إيه العيشة بعيد وانت فيها غريب ووحيد» و«شوف شبابك بيروح فين!» وكان منطقه بالغ القوة بحجج ساقها عبر غناء شجى لمست كلماته الموحية وترًا حساسًا فى كل مكان لتنتقل مشاعره الحميمة إلى اللغة اليونانية والفارسية والكثير من لهجات الدول العربية وعلى رأسها اللهجة المغربية، وكيف لا ورجاءات السلامات بسيطة وعاطفية تجرى على لسان الأنثى التى تنادى حبيبها أو خطيبها أو زوجها لتحثه على العودة لوطنه شوقًا إليه ورأفة منها على وحدته فى غربته وعدم راحة باله، حيث استهلت نداءاتها إليه على هيئة خطاب تقليدى «سلامات يا حبايبنا يا بلديات»، لكنها عادت تترك العام للخاص لتؤكد له أنها تخصُّه وحده بالوحشة والانتظار «شوف سافروا معاك كام واحد ماوحشنا منهم واحد ده انت وحشتنا بالذات».. ويحمل التحريض العاطفى تشجيع الغائب على العودة وهو لم يزل فى شرخ الشباب قويًا عفيًا فوطنه وحبيبته فى حاجة لعنفوانه وبلاها عودته عجوزًا شاردًا واهنًا حتى ولو حمل الثلاجة والمروحة وعدة دولارات «وتسوى إيه العيشة بعيد، وإن لقيت فى الغربة المال مش ح تلقى راحة البال» و«هجرة إيه اللى تخليك تنسى ناس بيدوبوا فيك، إيه الحكاية يا نور العين شوف شبابك بيروح فين!».. وربما كانت دعوة الشاعر وقتها مقبولة إلى حد ما عندما كان عددنا لا يتعدى الخمسين مليونا وكيلو اللحم بثلاثة جنيهات، لكننا الآن من بعد المائة مليون وزيادة فلا سلامات ولا تحيات واللى فات مات يا بلديات، وإن سافروا الجدعان معاك كام واحد فلا لهم وحشة ولا لك أنت بالذات وعلى النت بمشيئة الله التواصل وفى الاستجرام المرام والسلام ختام..
ويروى عبدالوهاب محمد عن تاريخه الذى كان يصحب فيه والده الشيخ الضرير من رجال الأزهر الشريف ابن العائلة المتصوفة لزيارة المشايخ وحلقات الذِكر قبل تخرجه فى مدرسة مصطفى كامل الثانوية أنه التحق بالعمل فى شركة شل بوتاجاز فقد كان العائل الوحيد لأسرته، وإرضاء لوالده الذى كان يرى فى كتابة الأغانى رجسًا من عمل الشيطان كانت أغنيته الأولى عن الحج ومطلعها «يا قاصد رسول الله» وقد غناها عبدالمنعم عوض الله أول خريجى معهد الإذاعة عام 1950 ولحنها فهمى فرج، وقد أيقن شاعرنا منذ الصغر أنه إذا كان يريد الإضافة فيما اختاره طريقا له فى الحياة، وهو طريق الكلمة المغناة، فلابد أن يأخذ بنصيب وافر من ثلاثة أشياء: القرآن الكريم، والأدب العربى، والموسيقى، وقد كان.. لتستمر معه النزعة الصوفية التى جعلته يترجم فى كلماته قول جلال الدين الرومى: إننا فى هذا العالم مثل ثلاث فراشات أمام شمعة متوهجة، فالأولى اقتربت من الشعلة بعض الشيء، وقالت: هكذا العشق.. والثانية اقتربت أكثر فلامست الوهج بطرف جناحها ثم قالت: هكذا عرفت كيف تحرق نيران العشق.. أما الثالثة فاندفعت بكلتيها إلى الشعلة واحترقت تمامًا، ووحدها من عرفت ما هو العشق.. و..كان عبدالوهاب محمد من نوعية الفراشة الثالثة فى قوله: انت فين والحب فين/ ظالمه ليه دايما معاك/ ده انت لو حبيت يومين كان هواك خلاك ملاك.. واحترق الشاعر.. و..ليس كمثله من عانى أوجاعًا وآلامًا تهد جبال على مدى نصف سنين عمره ليسمع قصته وقتها الوزير الفنان عبدالمنعم الصاوى ليسأل عن عنوان فيصحبه الشاعر الفنان مصطفى الضمرانى فيمنحه الحق فى العلاج بلندن بعدما أصيب بجلطة وشلل نصفى وسكر ونزيف دموى وذبحة صدرية ومرض فى القلب الذى توقف عن الخفقان فى 15 يناير 1956 لنبكى عليه ببكائيته فى قوله إلى رامي:
يا شاعر الحب شعرك مستحيل ح يموت
عمر الجسد مرحلة يوم بعد يوم بتفوت
والفن فوق الزمن مالوش حساب موقوت
وللصداقة ما بين الشعراء المرهفين أواصر لا تنقطع، من هنا لم يتبع الشاعر بشير عياد منهاج «المعنى فى بطن الشاعر» وإنما خرج بمعان وكلمات صديقه عبدالوهاب محمد إلى النور.. مواله الطويل عن اللى بنى مصر، ليمنحه لنا هدية أنقلها بدورى للقارئ الغاوى..
اللى بنى مصر كان فى الأصل مصراوى
فلاح مأسِّس مِفَرْعن للبُنا غاوى
عمل اللى ما يعمله الجنِّى ولا الحاوى
واللى بنى مصر كان فى الأصل من طينتى
شارب من النيل وواكل نَفْس بتَّاوى
واللى بنى مصر كان مُغرم قوى بيها
عشقها عشق اللى متعشَّق فى روابيها
وكان فى ساعة الخطر بالروح يلبِّيها
واللى بنى مصر كان فى الأصل مين؟
جدِّى وأنا طالع له وبعبد كل شىء فيها
واللى بنى مصر كان فى الأصل واد فنان
عرف الورق والقلم والشِعر والألحان
والرقص والملحمة وكلّ فنٍ كان
واللى بنى مصر كان فى الأصل إيه؟
عالم بنى حضارة بيثبت قدرة الإنسان
واللى بنى مصر كان بيدندن المواويل
وهو بيحطّ غنّى ووقت ما بِيْشِيل
والمغنى كانت تخفِّف عنّه كل تقيل
وهيلا بيلا اللى بنقولها لحدّ اليوم
شالت معاه الهرم وجبال من التماثيل
اللى بنى مصر بنى فيها الجمال ألوان
نيل حلو صافى بيترقرق كرم وحنان
وضفتين خُضر يمتدوا غيطان فى غيطان
وجوّ رايق على طول السنة ينوّر
وشمس صحة وشجر فارش فى ظله أمان
اللى بنى مصر كان إنسان شديد بيجد
ويكد مهما يلاقى الناس قصاده تِهد
ويمدّ فى الخطوة ويدوس على الصعاب ويسدّ
ويشد عزمه لفوق مهما اللى تحته يشدّ
واللى بنى مصر كان بيورِّث الصنعة
يسقيها لابنه يجوِّد فيها بالسبعة
وابن ابنه يبقِّيها شموس طالعة
شعلة حضارة منارة للى بعدِيْهُم
وكل واعى يسلِّمها لولد أوعى
اللى بنى مصر بنى فيها المودّة كمان
فى ساعة الحزن.. كله يواسى فى الأحزان
وف ساعة الفرح بنلاقى الجميع خلاّن
يشاركوا ويباركوا والفرحة لسابع جار
تشنّ وترنّ بالنقطة من الجدعان
اللى بنى مصر قسِّمها لمديريات
لكن مقسمش بين الأهل والإخوات
النبض واحد ولو تتعدد اللهجات
والدمّ واحد من المالح إلى الشلال
والروح فى كل الملامح شاهد الإثبات
اللى بنى مصر عاش عمره كريم ع الضيف
وبيته مفتوح له دايمًا فى الشّتاء والصّيف
بنفس راضية ماتعرفش النفاق والزيف
من استجار به يجيره يطعمه ويسقيه
ويحامى عنه بروحه أو بحدّ السيف
واللى بنى مصر قال لك أيوه أنا المصرى
اللى باجمّع فى شملى وألمّ فى أواصرى
واللى ماحدّش قدر على سحقى أو عصرى
حتى الرومان الغزاة غير العتاة الهكسوس
الكل راحوا وفضل اسمى دليل نصري
اللى بنى مصر بنى فيها الحياة ع النيل
حسب مدار السنة وفصولها بالتفصيل
وقاس على الشمس تأثيرها على المحاصيل
وسمّى ع النجم أسماء الشهور بحساب
من قبل ما يتعرف مارس ولا ابريل
واللى بنى مصر قال لك دايما اعمل خير
وارميه إلى البحر ماتطلب جزاء م الغير
وقال لك الطيب أحسن جدّ فيه السّير
وكون كما الطير إذا غَنّى مايطلبشي
أجر لغناه من سواه إن كان بشر أوطير
اللى بنى مصر فيها جيوش بتقوم
تصد عنها الغريب لو جَهْ عليها يحوم
وترجَّع الحق م الظالم إلى المظلوم
علشان كده مصرنا ماجاش عليها غريم
إلا وعنها رجع مهما يكون.. مهزوم
واللى بنى مصر كان بيوحّد الدَّيان
سبق بِرَه الأنبيا وجميع بنى الإنسان
وأثبت الفكرة فى الأناشيد وع الحيطان
وفى سبيلها شقى لكن بقى فضله
بأنه بشَّر وفاق زمانه كمان بزمان
واللى بنى مصر كان جندى وبيحارب
جسور وقهر المحيط وأمواجه بالقارب
وعَدَّى لبلاد بعيدة يطارد الهارب
ولا اعتداش.. إنما لما عادوه الغير
قاوم وهاجم وردّ الضربة للضارب
واللى بنى مصر كان غاوى البُنا بمزاج
مزاج لمؤمن بيلبس حبّ بلدهُ تاج
وحبه ليها نطق فى روعة الإنتاج
من منطق الحب عِلْيت كل آثارنا
مش منطق الضغط والسخرة ولا الكرباج
واللى بنى مصر كان زارع من الزراع
لكن عشانها اخترع والاختراع ما ضاع
شكِّل له فاس م الحجر حسِّن بيه الأوضاع
ثم الشادوف والقادوس والساقية والطنبور
والعجلة والسهم شهدوا إنه من الصناع
واللى بنى مصر كان بالعدل متزوّد
عارف طريقه وعمره عنه ما حوّد
بيَّض طريقه فى وقت ما غيره بيْسَوّد
وساب وراه الأثر علشان ولاده تشوف
وكمان على المجد تتربّى وتِتعَوِّد
واللى بنى مصر كان فلكى ملُهش مثال
من غير تليسكوب نَظَر نظرة خبير جوّال
وفوق مجال النظر زاد ع الحقيقة خيال
جُم يحسبوه بالعقول الإلكترونية
لقيوه مطابق حقيقى فى كافة الأحوال
اللى بنى مصر فى الأصل حلوانى
مِذْوق صحيح أبهة فى الصنعة حقّانى
شاف الحلاوة اللى فيها سحر ربّانى
غار منها قال لك آخد منها واحسِّنها
ولما كوّنها قال: أهى ديَّه أوطانى
اللى بنى مصر كان إنسان عظيم ومازال
فى الشِدة بيبان بطل أكبر من الأهوال
وأما التاريخ ينكتب بالحق للأبطال
تلقى فى ولادنا ملايين الملايين.. دول بيستحقوا
نقِم لهم كذا تمثال
واللى بنى مصر عاش غالب ولو مغلوب
يصبر سنين ع البلا صبر النبى أيوب لكن إذا
فاض به يوقَّف كل شيء مقلوب
ويغصب الميه تجرى حتى فى العالى
ويؤكد إن الإله الحق رب قلوب
واللى بنى مصر كانوا ناس رياضيين
عرفوا سلامة البدن والعقل بالتمرين
وشالوا على كتفهم المجد م التكوين
وأدهشوا الدنيا بالبطولات ولا طلبوا
على مجدهم أوسمة تلمع ولا نياشين
اللى بنى مصر بنى فيها عادات ياما
كرامة فى ابن البلد بتقوم لها قيامة
وهِمة عالية وعِزة ونخوة وشهامة
ومجدعة تنتصر للى يكون مظلوم
ونكتة رايقة تروَّق أى دوَّامة
اللى بنى مصر خد من روحها وادَّاها
وجميع فروض الولاء لترابها أدَّاها
وخاض عشانها المهالك بس عدّاها
عداَّها م الغزو والأزمات وم النكسة
وفى سبيل مجدها عن نفسه بَداَّها
اللى بنى مصر كان عارف بيعمل إيه
نوَّرها بالعلم والكون كان ظلام حواليه
وعلِّم الدنيا تتقدِّم بصنع ايديه
وخلَّى للإنسانية مكانة فى العالم
وللحضارة عمل أكتر من اللى عليه
واللى بنى مصر فى العصر الحديث احنا
احنا اللى زحنا الكابوس والعتمة والمحنة
احنا اللى عدِّينا يا سينا بجوارحنا
احنا اللى خلينا كل الدنيا تسمعنا
والدفّة تبقى ف ايدنا والرياح ريحنا
واللى بنى مصر قال لك كونوا مصريين
وخَلوا حب الوطن هو أساس الدّين
لا فرق بين مسلمين منكو ومسيحيين
الدين ده لله ولكن مصر للمجموع
واللى يقول غير كده يبقى عدو مبين
واللى بنى مصر قوّاها بأبناءها
عزِّزها بيهم وخلّقهم بأخلاقها
ومدّ منهم فروع فى كل أنحاءها
قبلى وبحرى جنوبى منها وشمالي
عيلة بتشبه لشجرة مادة أوراقها
واللى بنى مصر قال لك برضه ف كلامه
من قدِّم السبت يلقى الحدّ قدامه
والناس لبعضيها والكرما ماينضاموا
وإدِّى لقب الأمير للراجل الطيِّب
مش للى أبوه كان ملك جبار فى أحكامه
واللى بنى مصر صوَّر طبعه فى الأمثال
قال لك أخويا وأنا على ابن عمى إن مال
وأنا وابن عمى على الغربا فى أى مجال
وآدى مبادؤه اللى ما فرّط فى يوم فيها
حتى أما عانده الزمن واتبدلت الأحوال
واللى بنى مصر كان داخل سباق جبار
الخصم فيه الزمن بيسابقه باستمرار
كأن بينه وبين زمن التأخر تار
وياما فاز وانتصر لكن نكر ذاته
كأن ما بيعمله شىء عادى باستمرار
اللى بنى مصر بنى فيها الحنان فى القلب من قبل
روميو وجوليتت وكنّا هنا بنحب
إيزيس وأوزوريس وآهات البعاد والقرب
أيوب وناعسة.. حسن ونعيمة.. وبهية وقيس
وغيرهم قصص أكبر كتير من الحب
واللى بنى مصر على كتفه رفع أحمال
وشال على دماغه شيل ما تشيل حمولته جِمال
وماكانش هامل ولا مكسل ولا خمال
اللى بنى مصر كان بيشيل خلاف الشيل
أّمال.. فى باله هموم مستقبل الأجيال
اللى بنى مصر ياما لسه راح يبني
بنّا عظيم يعجبك خالص ويعجبنى
بنى لبكرة وبعده لبنتى ولابنى
اللى بنى مصر مش واحد ولا مِيّه
ولا ألف ولا مليونات دى روح حضارية
ممتدة عبر التواريخ الزمّانية
• • •
واللى بنى مصر كان.. كانت القوى الناعمة..
اللى بنى مصر كان.. عثمان وشلتوت وثومة ونجيب
ومحمود سعيد وهيكل وفاتن ومختار
ومحمد عبدالوهاب.. و..عبدالوهاب محمد..
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.