خيوط متداخلة تشبه بيت العنكبوت، تراصت وتواصلت بنظام كوني متزن ، تلقي شباكها علي كل ما يرتبط بالفن والمشاعر والابتكار، تتصيد الإحساس والبهجة والحكمة لتصنع منها عجينة إبداعية لم ولن تنسخ مثلها ثانية. إنها دماغ الفنان الشامل صلاح جاهين الذي كان بحق معجزة فنية. دماغ خرق حدود توقعات الجدود الذين ابتكروا مثلا متداولا يصفون به من يمتهن مهنتين أو يؤدي دورين بأنه كاذب لأنه «صاحب بالين»، ذلك المثل الذي أقره أساتذة علم النفس، وأكدوا أن من ينشغل بعمل ويتقنه يأتي علي حساب العمل الآخر الذي يظل هامشيا مهما منحه من (بواقي) العناية. صلاح جاهين ولكن ما أكده د. خليل فاضل استشاري الطب النفسي أن صلاح جاهين كسر هذه القاعدة، وكان استثناءها، وهو ليس صاحب بالين فقط بل صاحب عشرة، وذلك لأن الله خصه بتركيبة عقلية ذهنية زاخرة قادرة علي صنع تراكيب لغوية مميزة ومكثفة تمثل السهل الممتنع، ورسومات ساخرة ناقدة للواقع في كاريكاتير سياسي يتميز بالبساطة رغم قوته ، كما كان لديه من الحكمة ما يكفي لاتقان كل عمل علي حدة ويمنحه حقه ليخرج علي أكمل وجه ، وهذا ما جعله مصنفا ضمن عظماء الأدب والفن ممن يمتلكون قدرة إلهية خاصة. جاهين - كما يري د. فاضل - جمع بين التمثيل والرسم والنقد والشعر والموسيقي والمسرح، فهو كالطفل الذي ما زال يملك جميع الطاقات البكر ويجربها لحين يستقر علي إحداها فأتقن الكل وصار عظيما منذ يوم ميلاده في 25 ديسمبر عام 1930 في حي شبرا، ولم يستقر في مكان واحد بسبب كثرة ترحاله مع والده الموظف بالسلك القضائي، حيث تنوعت أفكاره وارتبط بالشارع وأهل القري والغلابة الذين ترك واجباته المدرسية من أجلهم ليرسمهم ويكتب لهم لكن أسرته رفضت الرسم والأشعار واعتبرته «كلام فاضي» فترك الفنون الجميلة امتثالا لرغبة أبيه ودخل الحقوق، لكن لم يمنعه شيء من الانضمام إلي مسرح الكلية وفرق التمثيل. ثم بدأ حياته العملية بمساعدة صديقه أحمد بهاء الدين من خلال رسم الكاريكاتير في بعض الصحف والجرائد المصرية، ومن بينها جريدة بنت النيل والتحرير والأهرام، لينتقد المجتمع برسومات ساخرة مبسطة ينتظرها البسيط قبل المثقف، وكتب العديد من السيناريوهات السينمائية، مثل «أميرة حبي أنا، وخلي بالك من زوزو، وعودة الابن الضال». وكتب الشعر والمسرحيات, وأشهر ما كتب رباعياته التي يحفظها المصريون عن ظهر قلب، لذلك أصبح صلاح جاهين فنانا شاملا صاحب أكثر من بال وهو بذلك في عرف أساتذة علم النفس نموذج للإعجاز البشري.