أطلق إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالانسحاب من معاهدة الحد من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى, والتى تم توقيعها فى عام 1987 بين الرئيسين جورباتشوف وريجان, العنان لاشتعال سباق تسلح جديد بين القوى الكبرى فى النظام الدولى وهو ما يؤثر سلبا على الأمن والسلم العالميين, ويعيد إنتاج فترة الحرب الباردة من جديد ولكن بأشكال مختلفة أكثر خطورة. فالمعاهدة تقضى بإلزام روسيا, ووريثة الاتحاد السوفيتى, وأمريكا بالتخلص من آلاف الصواريخ النووية قصيرة المدى التى تترواح بين 500 و1000 كليو متر، والصواريخ متوسطة المدى التى تترواح بين 100 و5000 كيلو متر, وعدم تطوير صواريخ جديدة, وقد التزم الطرفان بالفعل بتقليص جزء كبير من مخزنهما من تلك الصواريخ كما التزما بعدم إنتاج صواريخ جديدة منها, حيث دمر الاتحاد السوفيتى 1792 صاروخا باليستيا ومجنحا تطلق من الأرض، ودمرت الولاياتالمتحدةالأمريكية 859 صاروخا. وقد جاء إعلان ترامب بالانسحاب من المعاهدة بعد اتهامات لروسيا بخرقها ونشر صواريخ اس اس 20 فى غرب روسيا بما يشكل تهديدا لأوروبا وللقوات والقواعد الأمريكية الموجودة فيها, بينما نفت روسيا تلك الاتهامات, وأعلن وزير الخارجية الأمريكى بومبيو إعطاء روسيا مهلة شهرين لإثبات التزامها، وإلا فإن أمريكا ستنسحب من المعاهدة. خطورة الانسحاب الأمريكى من المعاهدة تعنى عدم التزام الولاياتالمتحدة بالحد من تلك الصواريخ وقيامها بإنتاج أعداد كبيرة منها خاصة مع رفع الميزانية العسكرية الأمريكية لما يقارب 750 مليار دولار, وفى ظل مساعى ترامب بإعادة بناء القوة العسكرية الأمريكية وفقا لشعار أمريكا أولا, كما أن الانسحاب سيؤدى إلى انسحاب مقابل من روسيا من المعاهدة ودخولها أيضا فى سباق إنتاج تلك الصواريخ القادرة على حمل رءوس نووية ونشرها على حدودها مع أوروبا مما يزيد من اضطراب الأوضاع. لكن الأخطر هو أن الانسحاب من تلك المعاهدة يأتى فى سياق سباق تسلح مشتعل على أرض الواقع بين أمريكاوروسيا خاصة فى عام 2018 والذى شهد تحولا نوعيا باتجاه العسكرة واستعراض القوة, فالرئيس الروسى بوتين أعلن فى مارس الماضى عن قيام روسيا بإنتاج أسلحة فتاكة غير تقليدية مثل إنتاج طائرات تعمل بالوقود النووى وصواريخ شبح باليستية أسرع من الصوت لا يمكن للرادار رصدها, وبالفعل كشفت روسيا أخيرا عن سلاح جديد يعمل وفق أنظمة الليزر بيرسفت القتالية، ولديه قدرة فائقة على تدمير الأهداف فى كسور من الثانية ولا يمكن رصده أو اعتراضه. فى المقابل قامت الولاياتالمتحدة بإنتاج أسلحة نووية تكتيكية, صغيرة الحجم وقادرة على استهداف مدن ومناطق بعينها, وقامت بالفعل بإنتاج ما سمته أم القنابل واستخدمتها فى أفغانستان ضد مواقع للقاعدة وداعش. كذلك لم يقتصر سباق التسلح على الأسلحة التقليدية وغير التقليدية مثل النووية, وإنما امتد أيضا إلى الفضاء الخارجى وعسكرته عبر نشر منظومات عسكرية فى الفضاء, وقد أنشأت الإدارة الأمريكية وكالة عسكرية متخصصة للفضاء بمواجهة التحركات والتهديدات الروسية والصينية فى الفضاء. سباق التسلح دخل إليه أيضا العديد من القوى الدولية الأخرى مثل الصين التى عرضت فى أبريل الماضي، أحدث صواريخها النووية العابرة للقارات، وهذه الصواريخ، القادرة على حمل رؤوس نووية، من نوع طرازDF-26، تفوق سرعتها سرعة الصوت. وقد شهد العام 2017، زيادة فى الإنفاق العسكرى للدول الثلاث, حيث أنفقت روسيا 66 مليار دولار، فى حين بلغت نفقات الولاياتالمتحدة 600 مليار دولار، وصرفت الصين على نشاطها العسكرى 228 مليار دولار. وهو ما يعنى أن الميزانية العسكرية لكل من أمريكاوروسياوالصين تقارب التريليون دولار, وهو ما يتعارض تماما مع الأزمات الاقتصادية التى تواجهها الدول الثلاث، وهو ما دفع ترامب إلى التراجع نسبيا ودعوته روسياوالصين إلى الحوار بسبب التكلفة الاقتصادية الكبيرة المترتبة على سباق التسلح. خطورة سباق التسلح بين القوى الكبرى أنه يدفع الدول الأخرى إلى سباق التسلح, وبالتالى ليس فقط تهديد السلم العالمى, وإنما أيضا استنزاف الكثير من الموارد الاقتصادية, فى سباق لا جدوى عمليا منه, حيث إن الحروب بين الدول الكبرى النووية تراجعت تماما لعواقبها الوخيمة على أطرافها وعلى العالم, مقابل تصاعد المخاطر والتهديدات الجديدة مثل الحروب الأهلية وخطر الإرهاب والتى لا تتطلب صواريخ نووية أو أسلحة تقليدية وإنما تحتاج إلى مواجهة خاصة تقوم على استخدام القوة الذكية والمعلومات الاستخباراتية. كما أنه فى الوقت الذى يواجه فيه العالم العديد من الأزمات والتحديات الخاصة بالتغير المناخى والجوع ونقص الغذاء والتصحر وأزمات الهجرة غير الشرعية واللاجئين من الحروب, وتراجع النمو العالمى التى فاقمته الحروب التجارية, نجد الدول الكبرى تتجه نحو العسكرة وتخصيص ميزانيات ضخمة لسباق التسلح, وبدلا من أن تتكاتف فى ضبط قواعد النظام الدولى والعمل على مواجهة المشكلات العالمية وتوجيه الموارد نحو التنمية ومساعدة الدول الفقيرة ومعالجة مشكلات الجوع, نجدها تنجرف إلى سباق تسلح, جوهره الصراع على تشكيل بنية النظام الدولى الجديد, سيكون ثمنه عالما أكثر اضطرابا. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد سيد أحمد