الشاعر جلال عابدين من شعرائنا المخضرمين الذين تمسكوا بالشعر واتخذوه منهجًا لحياتهم، فهو يرى أن الشعر كائن حى يتأثر بالزمان والمكان والوجدان، فأصدر سبعة دواوين منها: «من أجل عينيك».. «رسالة إلى عاشق الموال».. «ماذا جرى للعاشقين»، كما حصد عدة جوائز منها جائزتا السلطان قابوس، والشاعر محمد حسن فقى فى التفوق الشعري، كما أسس وأدار جماعة فضفضة للآداب والفنون، وهى بمنزلة ورشة عمل ثقافية وإبداعية. نريد أن نعرف إلى أى المدارس ينتمى إبداعك الشعري؟ تأثرت فى بداياتى بالشعر المدرسى الذى كان مباشرا وتقريريا، ويهدف إلى تعظيم الجانب التربوى الذى يحض على الالتزام الخلقى والسلوكي، ولم يهتم بالجانب الوجداني، وكان شعراً عمودياً خالصاً، وهو النمط الشعرى الذى قلدته وتأثرت به فى محاولاتى الشعرية الأولي. وقد لاحت بعد هذه المرحلة، بشائر التجديد فى الشكل والمضمون، حينما قامت الإذاعة المصرية بتقديم مسرحيتى «مجنون ليلى ومصرع كليوباترا» لأمير الشعراء أحمد شوقي، كما قادت حركة التجديد الشعرى الشاعرتان فدوى طوقان، ونازك الملائكة، وتبعتهما الشاعرة المصرية جليلة رضا، بالإضافة إلى شعراء المهجر الذين كان لهم وجود شعرى طاغ فى الساحة الشعرية فى ذلك الوقت، وتبعهم رائد شعر التفعيلة نزار قبانى الذى فاجأ الساحة الشعرية بتقديم نقلة نوعية مدهشة فى الشكل والمضمون والقضايا الجديدة التى تناولها فى ذلك الوقت، وبالتالى فقد استهوانى شعر التفعيلة برحابته وقدرته الهائلة على صدق الفكرة وطزاجة التعبير وحداثة القضايا التى يتناولها. وأؤكد هنا أن شاعر التفعيلة المتمكن لابد أن يكون قد تعامل مع القصيدة العمودية بجدارة ثم ذهب إلى قصيدة التفعيلة التى هى فى تقديرى أرحب وأصدق وأروع. ما هى المحمولات الأساسية للنص الشعرى فى تقديرك؟ لم يتبق من قضايا الشعر الآن إلا الشعر الإنسانى والوطنى والعاطفي، وأزعم أننى كتبت فى جميع هذه الأغراض، وقد سكنت إلى القصيدة الدرامية التى تشبه الحدوتة، وعمدت لأن تكون لغتها بسيطة تميل إلى إدهاش المتلقى دون التعالى عليه، ولا أسعى إلى إغراق المتلقى فى لغة من المفردات الشاردة والمهجورة. الحب بمفهومه الصوفى وأصل الحياة والوجود كانا ركنين أساسيين فى تاريخ حركة الشعر، كيف تفسر ذلك؟ الحب فى مفهومه العام والمطلق، هو حب الحياة والوجود والبشر بشكل عام، وهو الملهم الأول للإبداع الشعرى والأدبى والفني، وهذا ما يميز بعض الشعراء عن غيرهم بقدر حبهم للحياة والوجود وقدرتهم وصدقهم الابداعى فى التعامل مع ديناميكية الحب وتضفيرها بحرفية مع قضايا الحب فى هذا الوجود، ومن هنا أستطيع أن أقول إن الشعر الصوفى الذى استهوى جلال الرومى وابن الفارض ورابعة العدوية على سبيل المثال، لم يكن إلا شعرا ذاب فى الذات الإلهية. يراكم خبرات الشاعر وأخيلته ومضامينه الدلالية حتى يصل بها إلى ذروة انفعالاته الحسية، فتكون دفقة الشعر أكثر تعبيرا للحالة الآنية، فهل تستولى عليك هذه الحالة الانفعالية فتكتبك القصيدة قبل أن تشرع فى كتابتها؟ يهمنى فى البداية أن أقر بأن تراكم الخبرات والأخيلة والمضامين عند الشاعر هى من أهم الدلالات والأعمدة التى يعتمد عليها الشاعر الحقيقى فى التعامل مع الإبداع الشعري، فهذه العناصر مجتمعة هى التى تؤثر فى الوجدان الشعرى وفى الإبداع بشكل عام، فكيف للشاعر أن يكتب قصيدة ما، دون أن يكون لديه مخزون من الخبرات الحياتية والإبداعية يستطيع أن يوظفها بصدق فى كيان القصيدة؟ وكيف لشاعر أن يكتب قصيدة ما دون أن يكون لديه خيال وإبداع واسع ومبتكر يثرى ويعمق فيه إبداعه الشعري؟، فيعلو بنا فوق كل ما هو معتاد ويميزه دون غيره من الشعراء. أما فيما يتعلق بمضامين الشاعر الدلالية، فإن الشعراء والنقاد يطلقون عليه المعادل الموضوعى والمقصود منه أن يكون لدى الشاعر ثقافة حياتية وموضوعية وأيضا دينية يستطيع إسقاط معانيها ومفرداتها ودلالاتها على قصيدة بحرفية وحنكة شديدة تحيل المتلقى إلى هذا المعادل الموضوعى .وأنا أعترف بأن القصيدة هى التى تكتبني، فإننى لا اكتب القصيدة لذاتها بل إن المشاعر الوجدانية والأحاسيس التى تسكننى تجاه قضية ما، تختمر فى وجدانى الشعرى حتى يحين موعد المخاض لهذه القصيدة، وأفرغها على الورق بأمر ملكى شعري، بما يحدث المتعة للشاعر والمتلقى على حد سواء. يرى البعض أن الشعر كلام بليغ محجوب عن الإفهام ثقيل على الأسماع، ويعتبره بعض الشعراء نوعا من البلاغة والتمكن اللغوي، والبعض الآخر يعتبره نوعا من التغريب، يفقده لذة الالتحام مع المتلقين. إلىأى الرأيين تميل؟ مازلت أؤكد أن الشعر كائن حى متجدد يخاطب الوجدان والمشاعر، والشعر لا يكتب لذاته، بل يكتب لمتعة الشاعر والمتلقى معا، ولابد للإبداع الشعرى أن يتعامل مع كل معطيات العصر دون موت أو جمود. أما شعر التغريب الذى تبناه فى بدايته الشاعر الفرنسى بودلير فى احدى شطحاته الشعرية، حيث رفع عصا التمرد على كل ما هو قديم من وجهة نظره، حين مر بظروف نفسية واجتماعية سيئة تصل إلى درجة التشرد، تعمد فيه إغلاق النص الشعرى على نفسه، فى تعال منّفر على المتلقي، كأنه كان يستهدف أن يرى المتلقى لشعره فى حيرة مما يقول. وقد أتى إلينا بهذا الشعر من أتي، ظنا منه أن هذه هى الحداثة فى الشعر العالمي، حيث اعتنقه البعض ظنا منهم أن هذا التجديد الزائف سيلفت الأنظار إليهم. كذلك فأنا لست مع شعر المحسنات البلاغية ولا شعر التغريب الوارد من الخارج. هل للسيرة الذاتية للشاعر أثر على قصيدته؟ مما لا شك فيه - من وجهة نظري- أن الشاعر يعبر عما يجيش فى وجدانه الشعرى من تجارب ذاتية مَّر بها من أتراح وأفراح، سواء كانت عاطفية أو إنسانية أو وطنية، وهى بلا شك تجارب شخصية عاشها الشاعر وتفاعلت مع وجدانه، وأفرزها شعرا يخاطب فيه وجدان الناس ومشاعرهم، وبقدر صدق هذا الشاعر يجد المتلقى نفسه فى هذا النص الشعري، وكأَّن هذه القصيدة كتبت من أجله. ومن تجربتى أجد هذا المتلقى يلتحم مع الشاعر مكملًا كثيرًا من الكلمات، التى أوحى بها وصدقها وجدان المتلقي، ويعمل الصدق الفنى للقصيدة على التحام المتلقى بالشعر والشاعر معًا على حد السواء.