مرت على مصر عصور كثيرة كنا فيها أعظم حضارة لما يسمى القدماء المصريين، ثم صارت مصر منارة المسيحية ثم أصبحت مركزا للفقه الإسلامى ومركز الحكم. ثم سادت عصور مظلمة وكان كل من يحمل سيفا وجيشا يحكم مصر فى عصر المماليك. ثم انتفضت مصر وشعرت بهويتها بعد الاحتلال الفرنسى واستعادت مصر روحها من جديد على يد محمد على الذى قاد ثورة التنوير وأرسل من يحمل النور ويعود ليقود البلاد. وكان من نتاج هذا جيل عظيم من المستنيرين غيروا المجتمع، وعاصرنا نحن بعد ثورة يوليو عصر ما بعد الاستنارة الجيل الذى تربى على تلك الروح. ثم هبت على بلادنا أفكار مظلمة ولم تتصد لها أجهزة الدولة، فكان يُقتل كل من يقف فى وجههم مثل فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ. وسار المجتمع نحو الصراع بين جيل يحمل روح مصر والحضارة وبين جيل أصبح يحمل روح الكراهية والفرقة والهدم، وانتماؤه لأشخاص وليس الوطن. ولكننا لا نزال نحمل روح مصر التى لن تموت تلك المتمثلة فى التكوين الحضارى المتراكم عبر العصور. إننا نحتاج إلى ثورة هوية ثورة جديدة تزيل آثار ما حدث فى السنوات الماضية فنعلم الشباب والأطفال من هى مصر التى تحتفظ بتعاليم النور عبر العصور. ففى القديم نرى تعليم أجدادنا مثل تعاليم بتاح حتب وزير الفرعون جد كا رع من الأسرة الخامسة أى (2414 2375 ق.م.) وهى محفوظة فى المكتبة الوطنية بفرنسا، وهى حسب الوصف المكتوب فى البردية رغبة من الكاتب فى نقل تعاليم متوارثة من أجداده لتعليم الأجيال التى تليه. وهى عبارة عن كيفية السلوك السوى وسط الناس وضبط النفس والرحمة والرفق بالآخرين والعدل بين الناس فيقول مثلا: الظلمة موجودة بوفرة ولكن الشر لا يمكن أن ينجح على المدى الطويل. وإن كنت تعمل بجد والنمو فى الحقول فذلك لأن الله وضع البركة فى يديك، لا تردد الشائعات ولا تستمع إليها، إن وجدت رجلا يتكلم وكان فقيرا فلا تحتقره لأنه أقل منك ولا تجرحه لتسر قلبك. وإن بدا لك أهواء قلبك لتظلمه فاقهر أهواءك لأن الظلم ليس من شيمة الكرام. لا تنشر الرعب بين الناس فهذا أمر يعاقب عليه الرب. إن كنت بين جماعة من الناس فاجعل حب الناس هدفك. وتعاليم أخرى مغروسة فى أرواحنا لأجدادنا كان الوطن بالنسبة لهم هو الغاية العظمى فيقول رمسيس الثاني: أنا ملك أعظم أمة على وجه الأرض سأقتل وأمحو من الوجود كل من يفكر أن يعتدى على مصر أو أن يقترب منها أو يؤذى شعبى العظيم لتظل مصر هى الأعلى والأقوى والأغنى والأعظم على وجه الأرض. وفى كتاب الموتى قال أجدادنا: أقم العدل ولا تدع ميزان الحق يهتز، فالأرض التى سكنتها الآلهة سوف تهجرها السنابل إذا ما جاع الناس وضاع الحق. هذه هى روح مصر التى حين تختفى نرى مجتمعا أخرا لا نعرفه، ونعيش فى غربة وسط أشخاص لا يحملون تلك الروح، وتعود روح مصر حين نرى ملامح حضارتنا تعود. وهذا ما حدث فى بداية القرن العشرين فقد كان كل مفكرى هذا العصر لهم روح التنوير وحملوا لواء تغيير المفاهيم وإرساء دولة المواطنة، فكتب لطفى السيد - أحد رواد حركة التنوير ومدير أول جامعة مصرية عام 1928م ووزير المعارف 1940م - فى كتابه صفحات مطوية يقول عن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين: لابد أن يشترك الطرفان فى ميثاق الوحدة الوطنية وفى صياغة مفهوم جديد لفقه المواطنة يعتمد على المساواة التامة فى الحقوق والواجبات، يقوم على شعار الدين لله والوطن للجميع. وأن تكون الهوية المصرية الحضارية تشكل الجميع بمظلة الإرث التاريخى العريق المستمد من الدساتير القديمة ومن واقع الحياة التى تتساوى فيها المسلم والقبطى. كان أيضا من فرسان عصر التنوير الشيخ مصطفى عبد الرازق الذى درس الفلسفة فى فرنسا عام 1921م ثم عاد وصار وزيرا للأوقاف ثم شيخا للأزهر عام 1945م. وفى عصره علم وأنار الطريق للكثيرين وقال: الأديان جاءت لسعادة الناس والتوسيع عليهم فى الحريات والعدالة والقيم والأخلاق والمحبة الإنسانية رغم الاختلاف اللغوى والعرقى والمذهبى والدينى، فالمحبة بين البشر هى الحياة وبسواها يكون الهلاك والخراب. ولم تكن تعاليمه مقصورة على الدين فقط بل كان له صالون ثقافى عظيم جمع فيه كل ألوان الفكر والثقافة فى ذلك الحين. لقد صار التنوير مثل نقل دم جديد لجسد مصاب بالمرض فضخ القلب دما نقيا سار فى كل عروق الوطن الفكر والسياسة والاقتصاد والفن والأدب وحتى العلاقات الإنسانية. وقد كان من نتاج هذا التنوير وحالة الإشراق التى سادت المجتمع أن اصطفت مصر كلها بتلك الروح وأصبح الوطن فقط هو محور اهتمام كل الشعب ولم يعد هناك فرق بين مسلم ومسيحى حتى إن سعد زغلول قال: لو لم يكن لى عند ربى إلا أنى جمعت بين الأقباط والمسلمين فى وحدة وطنية لكفانى هذا ذكرا وفخرا. ويقول العقاد فى كتابه سعد زغلول: لقد كانت الثورة المصرية كذلك يغلب فيها الروح القومية على كل عصبة وكل علاقة وكل فارق. وكان أكثر ما يزعج الإنجليز هو وحدة الشعب فى أثناء الثورة، ونجح سعد فى أن جعل الصليب والهلال يتعانقان فى علم الثورة. وتمر السنوات ونقوم كل يوم على حالة للمجتمع المنقسم بين من يحمل روح مصر وبين من هو متغرب عنها. بيننا نحن الذين تعلمنا وعشنا وأخذنا من روح مصر، وبين من يحمل الظلمة والأفكار التكفيرية والهمجية. ومع حالة الانفلات صرنا نبحث عن ملامحنا ومن يشبهنا فنبحث عن تلك الروح التى عرفناها وحين لا نجدها نهرب مع البعض لبعض، نحاول أن نعيش فى بعض. فالتنوير ليس مجرد فكرة، ولكنه روح تتخلل كل المجتمع وهذا فى المقال القادم. لمزيد من مقالات القمص. أنجيلوس جرجس