التنوير حركة إنسانية أخرجت الغرب من حالة القصور الفكري والاجتماعي إلي رحابة الحياة الجديدة، وكان شعارهم «أعملوا العقل... تحركوا في الحياة بشكل إيجابي». وظهرت في إنجلترا في القرن الثامن عشر ولكنها ازدهرت أكثر في فرنسا ثم انتشرت في أوروبا كلها. وكان لها فرسانها أمثال ديكارت، واسبينوزا، وجون لوك، ومونتسيكيو، ونيوتن، وجاليليو، وجاك روسو، وفولتير. وكانت حالة استنارة وإبداع كامل في كل المجتمع في الفكر والفن والأدب والعلم وإن كانوا أهملوا الأمور الروحية إلا أنهم أخرجوا البشرية من حالة التدين المزيف. وحين أراد محمد علي أن يُخرج مصر من حالتها المظلمة وجد أن البداية لابد أن تكون في التنوير فأرسل بعثات إلي أوروبا ليتعلموا وينقلوا روح وفكر التنوير إلي مصر. فأرسل رفاعة الطهطاوي ليقود النهضة العلمية وترجم الكثير من الكتب وأنشأ مدرسة الألسن. ولم يكن هو وحده بل كان هناك كثيرون الذين أخرجوا مصر من مرحلة الظلمة التي كانت في نهاية عصر المماليك إلي الانفتاح علي الفكر والثقافة والفن، فكان نتاج هذا التنوير طه حسين، ولطفي السيد، وسعد زغلول، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وسيد درويش. وكان في هذا العصر أيضاً الشيخ محمد عبده في الفقه الإسلامي، وفي الكنيسة كان حبيب جرجس الذي كان أحد أسباب التنوير في عصرها الحديث. وقد اختاره البابا كيرلس الخامس ليعيد إنشاء الكلية الإكليريكية وهي وريثة مدرسة الإسكندرية التي أسسها مارمرقس وأنجبت أعظم لاهوتيين في العالم كله، وانتقلت إلي دير أنبا مقار في القرن السادس نتيجة الصراعات السياسية، وظلت هناك حتي القرن الحادي عشر ثم توقفت تماماً إلي أن أعادها البابا كيرلس الخامس. وقد طاف حبيب جرجس كل ربوع مصر ليجمع تبرعات لإنشاء الكلية الإكليريكية وقد استطاع أن يبنيها بالمهمشة وألحق بها كنيسة ومباني للطلبة. وكانت أول كلية أهلية قبل إنشاء الجامعات المصرية بخمسة عشر عاماً، وافتتحها البابا عام 1893م. ولكنه وجد أن التنوير لابد أن يكون شاملا داخل الكنيسة فأعد مشروع مدارس الأحد وهو مشروع تنويري كامل كان هدفه تربية الأطفال والشباب علي التعاليم المسيحية والإيمان الصحيح وبث روح الوطنية لخدمة البلاد. فكان هدف مدارس الأحد هو بناء إنسان له إيمان قوي، ناجح في حياته، يحب وطنه، فعال في المجتمع، وسوي نفسياً وجسدياً. فالصلاة وتعاليم الكتاب المقدس والإيمان تسير بجانب الأنشطة المختلفة من ثقافة وتنمية مواهب ونواد رياضية والتي تبني الإنسان كاملاً فلا يكون عرضة للشارع أو أصدقاء السوء بل ينمو في جو كله حب وروحانية. وتتداخل الأسرة مع مدارس الأحد من خلال الخدام المتطوعين والآباء الكهنة في تربية الأطفال وحل مشاكلات الشباب. ودعا لعمل مؤتمر علمي لأعضاء اللجنة العامة لمدارس الأحد لوضع المبادئ والوسائل العلمية والتربوية لها. وكان من ضمن المشاركين في هذا المؤتمر الدكتور المؤرخ الكبير عزيز سوريال. وانتشرت الفكرة في كل الكنائس وصار في كل كنيسة شباب يخدمون متطوعين حتي وصل عدد المخدومين في هذا العصر إلي مائتي ألف والخدام عشرة آلاف. وجال حبيب جرجس في كل مصر والسودان وإثيوبيا يعلم ويقود حركة التنوير والتعليم داخل الكنيسة التي كان من ثمارها كهنة ورهبان وأساقفة صاروا علامات فارقة في الكنيسة، بل ومنهم قداسة البابا شنودة الثالث وقداسة البابا تواضروس الثاني فهما نتاج خدمة مدارس الأحد. واستمر حبيب جرجس في خدمة الكنيسة والوطن فأنشأ جمعيات خيرية كثيرة وأصدر ثلاثين كتاباً. وفي 31 أغسطس عام 1951م انتقل من عالمنا بعد أن أكمل رسالته. والأحد الماضي احتفل قداسة البابا تواضروس الثاني والكنيسة القبطية بمائة عام علي أنشاء مدارس الأحد كعلامة مهمة في تاريخنا المعاصر. وقد قال قداسته في كلمته في هذا الاحتفال: «إن المحبة هي أساس التعليم في المسيحية لله ولكل إنسان في كل مكان وزمان». وقد اختار قداسته المفكر الكبير طارق حجي وهو من أحد علامات التنوير في عصرنا فقال في كلمته: «سمعتم كثيراً عن مدارس الأحد فاسمحوا لي أن أضعها في مسيرة التعليم خلال 150 عاماً. المحطة الأولي: البابا كيرلس الرابع الذي جلب إلي مصر ثاني مطبعة بعد المطبعة الأميرية. المحطة الثانية: البابا كيرلس الخامس. وسمي المحطة الأولي العلم، والثانية المعلم. والمحطة الثالثة: وهي التي تحتفلون بها اليوم والأكبر لأنها تجني ثمار ما سبق. واليوم أضيف المحطة الرابعة وهي للبابا كيرلس السادس وهي إنشاء أسقفية التعليم وعهد بهذه المهمة للأنبا شنودة قبل رسامته بابا بأربع سنوات. وأحب أن أنهي كلماتي بما قد يظهر غريباً للبعض، طه حسين كتب في «مستقبل الثقافة في مصر» باستعاضة عن مدارس الأحد: «من أهم مخرجات مدارس الأحد هو إخراج أن جميعنا مصريون، وهذا التوازي غير مستحيل أن تكون مسيحياً ومصرياً، وأن تقبل وتحترم الآخر وهذا النموذج الذي قدمته مدارس الأحد». ومن تدبير الله أن يأتي إلي مصر رفات شهداء ليبيا في اليوم التالي لهذا الاحتفال وهم نتاج تعليم مدارس الأحد. هؤلاء العشرون شهيداً ذبحوا علي أيدي وحوش هذا الزمن الدواعش في ليبيا بعد أن تعذبوا ورفضوا أن يتركوا إيمانهم. وقد رأي العالم كله مشهد استشهادهم الذي فيه قوة وثبات أذهل الجميع، إذ كان هذا يصلي دون خوف، وهذا يسبح، وهذا ناظر إلي السماء بابتسامة السلام والصفاء. كان هذا هو نتاج تعليم مدارس الأحد والبيوت المصرية التي تقدم الشهداء بفرح فلم يهابوا الموت لأن إيمانهم العظيم هو أن السماء ستكون أوطاناً لهم. وهؤلاء الشهداء كانوا قد ذهبوا إلي ليبيا ليبحثوا عن لقمة العيش بعرق الجبين فاختلطت دماؤهم بعرقهم ليرسموا أيقونة جديدة في عصرنا ويضيفوا سطوراً من مجد علي مجد تاريخنا. فإن كان في الغرب قد صار التنوير بالكلمة فنحن هنا في مصر نكتب التنوير بالدم. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس