لم أكن قد تجاوزت الخمسة أعوام، عندما عاد أبى ذات يوم، عائدًا من عمله فى « مجمع اللغة العربية»، وكان موقعه حينها بفيلا بشارع مراد بالجيزة وقبل أبواب حديقة الحيوان- وقد تم هدم هذا المبنى بعد ذلك وتم بناء أحد فروع محلات « عمر أفندى» على أرضه كان المجمع قريبا من بيتنا فى أول الهرم، عاد والدى سيرًا على الأقدام من المجمع، وهو يحمل أسفل إبطه لفافة كبيرة وقد ربطت بدوبارة على كرتون مقوى، كان يحملها بعناية شديدة ويبدو أن ثقلها كبير عليه، فقد كان يتصبب عرقًا وملابسه أصابها البلل، لذا فور وصوله للبيت قام بالنداء على أنا وأخى الأكبر كى ننزل ونحمل ما معه، هبطنا سريعًا السلم، وأحطنا به، وأخذنا اللفة منه، كل منا من جهة، وقف أبى يطل علينا وقد أخرج من جيب بنطاله منديل قماش ووقف يجفف عرقه، ثم أمرنا بأن نصعد بها، مع التحذير الشديد لنا، بألا تسقط أو تقع منا، وإلا نلنا عقابًا شديدًا. .............................. نحن نسكن فى الدور الخامس، وسلم البيت عال وطويل وضيق ومظلم، وكانت اللفة ثقيلة وكبيرة الحجم، حملناها من والدى وصعدنا بها فى حرص شديد أنا وأخى، وعندما وصلنا للشقة وقفنا فى حيرة كبيرة ومنتظرين صعود أبى، فلم نستطع أن نضعها على الأرض أو نقوم بإسنادها على أى شىء قبل أن يقرر أبى، بعد أن صعد والدى خلفنا، جلس على مقعده يلتقط أنفاسه، ظللنا واقفين أنا وأخى نتبادل النظرات فى قلق وحيرة ولا نعرف ماذا نفعل!، إلى أن أمرنا أبى بأن نضعها على مائدة الصالون- بينما أنا أقف فى شغف لمعرفة ما بتلك اللفة الكبيرة والتى تكاد تتخطى طولي- أمر والدى أمى بأن تأتى بسكين. ثم بدا يطل بنظراته على جدران الشقة إلى أن استقرت نظراته على مكان. جاءت أمى بالسكين وقطع أبى الدوبارة، وبدأ فى فك الغلاف الكرتونى، فإذا بها صورة بالأبيض والأسود لشخص ما مبتسما ابتسامة هادئة ويرتدى بدلة وكرافت، ويوجد أعلى الصورة نسر مطبوع على الكرتون فى المساحة الخالية بين البرواز والصورة، وبدأ أبى يطل على الجدران فى شقتنا بحثًا عن مساحة خالية، خاصة أن معظم الجدران كانت مغطاة بأرفف الكتب والمكتبات وصور لنا أو لأبى أو لأقاربنا. اختار أبى أعلى مكان فى الصالة، وأشار لى بأن أناوله الشاكوش ومسمارين كبيرين، ناولته ما طلبه من درج العدة، ثم وقف على كرسى وقام بدق المسمارين فى الجدار، ثم تناولت أنا وأخى الصورة الضخمة ورفعناها له، أخذها منا ووضعها فى حرص على الجدار. وعندما هبط وجلس يتأمل موقعها وموقع الرؤية لمن يأتى أو يمر عليها، لاحظنا أنها توضع فى مكان يراها كل شخص، سواء جلس لمشاهدة التليفزيون أو وهو جالس فى الشرفة، حتى ولو فتح باب الشقة فيراها من يقف على الباب، أى أنها تستقبل من يأتى للبيت وتودع من يغادره. كنت أريد أن أعرف لمن هذه الصورة، خاصة أن ملامح الرجل فى الصورة قريبة الشبه من والدى. وقفت أنظر للصورة وأنظر لأبى، ثم سألته بعفوية: هو مين الراجل ده يا بابا؟، فنظر لى أبى فى دهشة وحيرة، بينما أمى وأخى الأكبر ضحكا على سؤالى، أعدت السؤال على والدى، فنظر تلك المرة لأخى الذى صمت، ثم قال وهو ينظر على الصورة: هذا جدك جمال. نظرت للصورة ثم نظرت لأبى وقلت له: «ده شبهك قوى، هو ما بيجيش يزورنا ليه؟، لما ييجى يزورنا لازم أقابله». ومرت الأيام وجغرافيا الجدران فى بيتنا الصغير تتغير وتتبدل، توضع صور وتقطع صور وتنزاح صور، إلا تلك الصورة، ظلت معلقة فى أعلى الحائط وقبل نهاية السقف وكأن جدى جمال - يرعانا ويتابعنا، ولم استطع أن أصمد أمام نظراته فى الصورة عندما انظر له، لكن ابتسامته الشفيفة الرائقة حاولت تقليدها كثيرًا. كانت جدران بيتنا تمتليء بالكثير من الصور لأبى ولأخوتى ولأقاربنا، إلا تلك الصورة لم تتزحزح، ولم أعرف سر اهتمام أبى بها، لكن ذات يوم قررت أن ألتقى بجدى جمال صاحب الصورة، فإذا كان حيًا لماذا لا يأتى لزيارتنا، مثل جدى «عبد الرحيم» خال والدى والذى كان يأتى فى ميعاد غريب جدًا، يأتى دائمًا فى السادسة صباحًا، ولا أعرف السر فى هذا الميعاد حتى الآن، فقط نستيقظ فنجده جالسا مع أبى فى الشرفة يشربان الشاى ويتناولان الإفطار ثم يغادر ويختفى، وكنت أظن أن جدى جمال سيقوم بالزيارة هكذا وأنه حتما فى إحدى المرات سألتقى به، وربما نلتقط بعض الصور معه. إلى أن جاء يوم وحكى أبى لى حكاية هذه الصورة، وأن الصورة لجمال عبد الناصر الذى كان والدى يعشقه جدًا، فهو صعيدى ومن أسيوط وقد عاش «مستجاب» تلك الأحلام الناصرية فى الخمسينيات والستينيات، لذا فعندما يقوم أحد بسب أو السخرية أو بإهانة عبد الناصر، يغضب أبى بشدة، ويتضايق وقد يدخل فى عراك أو يغادر المكان، فقد كان يتعامل معه بعاطفة شديدة وان عبد الناصر شخص يخصه بمفرده. حكى لى والدى كيف كان مرتبطًا بشخصية جمال عبد الناصر، خاصة وأنه رآه عن قرب فى إحدى الزيارات للسد العالى، وقد عمل والدى سنوات طويلة فى السد العالى، ويعتبره مشروعه الخاص ومجده الشخصى، وعندما رحل جمال عبد الناصر فى سبتمبر 1970، وجاء السادات، كان كل شىء ثابتا، أى أن الحديث الساداتى بأنه سيكمل المسيرة على طريق عبد الناصر، وهذا الكلام ما كاد يتلاشى ويتبخر ليكون كل شىء يحمل رائحة أو مجد أو اسم عبد الناصر قد بدا يتلاشى ويغرب، وكانت صور عبد الناصر معلقة فى معظم مكاتب الموظفين فى الدواوين الحكومية وفى كل مكان تقريبًا، وقد جاءت القرارات بأن توضع صورة السادات بجوار صورة عبد الناصر، والتى لم تلبث أن جاءت القرارات الجديدة بأن تتم إزالة صورة عبد الناصر وتكهينها فى المخازن. ولآن والدى موظف فى مجمع اللغة العربية، فقد رفض أن تزال صورة عبد الناصر من على الجدار فى مكتبه وتوضع فى المخازن، من أجل تكهينها، وبدأت الحكاية تكبر وتدخل فى صدام مع رؤسائه فى العمل، وقرر والدى أن يأخذها للبيت، فلن توضع صورة عبد الناصر فى المخازن، ولن يستطيع أحد محو أو تدمير ما فعله عبد الناصر، ولأن تلك الصورة عهدة، فقد أخذ والدى العقاب الإدارى المناسب كموظف فى مجمع اللغة العربية، وخصم شهر من المرتب. لذا فأنه فور رحيل والدى والرغبة فى تجديد البيت، أخذت مكتبة أبى الضخمة وكذلك جميع اللوحات والصور، وقد أعدت ترميم بعض هذه الصور وتغيير البرواز التالف للباقيات إلا صورة جدى عبد الناصر، ظلت صامدة ببروزاها المذهب والذى مال للون البنى، لذا فقد قمت بتغيير الدوبارة التى تحملها لأنها « دابت» ووضعت لها سلكا قويا لحملها. وتظل تلك الصورة لجدى عبد الناصر، ألمحها كما كان يفعل أبى، فى بيتى، فأشعر مع ابتسامته بالاطمئنان وبأنه يوجد ضهر لى مثلما يحدث عندما انظر لصورة ابى، كما نتبادل الكثير من الحوارات خاصة فى مواقف أمر بها وأحاول اللجوء إلى شخص ذى خبرة وطيبة، فلا أجد إلا وعينى تصدم بصورة عبد الناصر، وأجد ابتسامته، فيهز رأسه ويطل على صورة أبى، هنا أبدا حديثى مع أبى، نتكلم ونتحاور وقد يغضب منى لأحد التصرفات، إلا أننى أجرى سريعا بنظرات عينى إلى حضن جدى المعلق على الحائط وألقى بنفسى عليه، احتمى فيه وألجا إليه كى يجد حلا لتلك المشكلة، خاصة إن كانت مشكلة مادية، دائما أجد لديه حلا، وأحيانا كثيرة لا أجد فى ابتسامته ونظرات عينيه إلا كلمة: اصبر، غدًا سوف تحل تلك المشكلة، أهدى أيام قلائل وستجد جيبك عامرا بالنقود. ظللت وحتى الآن- أعيش فى كنف مستجاب الأب وفى حضن تلك الصورة العظيمة لجمال عبد الناصر، وأتضايق كثيرًا عندما أجد بعض الأشخاص يحاولون أن يتطاولوا على عبد الناصر أو يقزمونا من دوره وفترة حكمه، وقد تكون وجهة نظرهم صحيحة أحيانا، لكن الذى لم يفهمه هؤلاء الأشخاص أن « جمال عبد الناصر» جدى أنا كما قال لى والدى ذات يوم: هذا جدك جمال، وسيظل الولد الصغير بداخلى منتظر زيارته، ليّ. حتى ولو رحل جدى عبد الناصر من سنوات طوال.