كل الذى عاشه توفيق الحكيم من معارك ، كل الذى جناه من انتصارات وهزائم ، كل الذى قرأه من فلسفات وعلوم وروايات ،كل الذى حققه من حضور ونجاح وخلود لاسمه وأعماله لا يساوى لحظة واحدة من تلك التى عاشها عقب الرحيل المبكر لابنه « إسماعيل» الذى مات فى الثلاثين مقهورا محسورا تاركاً والده غارقاً فى الشعور بالذنب والحزن، لكن يد الله كانت رحيمة على صاحب أهل الكهف فرزقه بفتاة جميلة الروح والقلب كانت هى الحياة التى تجددت فى دماء شيخ الكُتاب وأعادت الروح إلى بيت كان هامداً تماماً ،إنها « هيدى « أرملة إسماعيل وشقيقة الكاتب الكبير محمد سلماوى. دخلت هيدى بيت توفيق الحكيم وهو لا يرغب فيها، لايريدها زوجةً لابنه الذى جرب الزواج مرةً ولم تضف إليه التجربة شيئا سوى اكتئاب فوق اكتئابه المتقطع، لكن هيدى أبدلت الغضب فرحا، والرفض قبولا، والنفور تواصلا لم ينقطع حتى بعد رحيل إسماعيل، فمن هى هذه الفتاة يارب العالمين؟!. فوجى الحكيم ذات صباح بفتاة جامعية شاحبة اللون، ترتدى السواد تدخل مكتبه كقارئة حزينة لفراق والدها وجاءت إليه لتشعر ببعض الأمان وتسمع بعض النصائح، فراح الكاتب الكبير يأخذ بخاطرها ويهون عليها الأمر ،وإذا بالفتاة الهادئة تنفجر فيه: أهذا ما لديك؟!، من أنت؟!، فأجابها ساخراً: أنا توفيق الحكيم على ما أظن؟، فقالت :وهل جئت إلى توفيق الحكيم ليقول لى نفس كلمات التطييب الفارغة؟ أنا أريد أن أعرف لماذا يموت الإنسان؟ وهنا بدأ الحكيم يعتدل فى جلسته ويعرف أنه فى مواجهة شخصية غير عادية لفتاة تبحث عن الفلسفة، فجلس يحادثها عن مصير الكائنات وحقيقة الموت وظلت تستمع باهتمام وارتياح وانصرفت، ودارت الأيام والليالى أيضا، وخرجت الفتاة من أحزانها ووقعت فى غرام فنان يعشق الموسيقى اسمه إسماعيل الحكيم، مهووس بالفن وصديقاً لشقيقها أشرف الذى يهوى التلحين وكلاهما إسماعيل واشرف كونا فرقة "البلاك كوتس" وكانت لديهما أحلامً كبيرة لإدخال الموسيقى الإلكترونية، وأحبها الفتى الذى كان خارجاً لتوه من تجربة زواج فاشلة، وأرادها زوجة، فرفض الحكيم مبدأ الزواج مرة آخرى ولم يهتم بمن تكون العروس!، فهو يريد ابنه بعيداً عن أزمات الزواج ومشاكله حتى يتفرغ للفن، وظل شيخ الكُتاب على موقفه رافضا استقبال هيدى فى زياراتها البيت، وتدخل الأصدقاء والمعارف،وتصنّع الحكيم الموافقة وترك العائلة تستعد لحفل الخطوبة، وفى يوم شراء الشبكة قرر أن يهدم القصة «انتم صدقتم؟ أنا بهزر»، وهكذا مضت فترة طويلة حتى اقتنع الحكيم ووافق على الزواج، لتدخل هيدى البيت وتتحول إلى سر السعادة، فقد تسللت الفتاة بذكاء إلى عقل الحكيم وراحت تجمع مقالاته وتناقشه فى بعضها ثم تقوم بترتيبها وأرشفتها حسب تواريخ نشرها فينشرح صدر عدو المرأة ويضحك بهستيريا حين تفاجئه بألبوم كبير يضم صوره ولقاءاته، وأصبح من حقها أن تطرق باب حجرته التى لم يجرؤ أحد قبلها على دخولها ،وتوالت معجزات هيدى حتى إن شيخ الكتاب نسى «البخل» المعتاد ووافق على تجديد البيت ودهان الحوائط بعد أن ظل رافضا للفكرة وللمصاريف "اللى على الفاضي"،وامتلأ البيت بهجة وحضوراً للفتاة المثقفة الذكية حتى انتابت إسماعيل نوبات المرض وفارق الحياة وبقيت هيدى بجوار الأب المكلوم وتحاملت كثيراً وهى تحاول تخفيف شعوره بالذنب تجاه ابنه الذى تجاهله صغيراً ولم يهتم بموهبته كما ينبغى وكلما حاولت الفتاة تخفيف هذا الشعور انتابت الحكيم نوبات جديدة يتذكر فيها كيف جعل إسماعيل يوقع له على كمبيالات مقابل المبالغ التى يأخذها منه!، ومضت الأحزان وعاد الحكيم للكتابة وبدأت هيدى تفكر فى حياتها واستأذنته أن تسافر إلى لندن لزيارة شقيقها أشرف، فوافق على مضض غير متصور أن البيت سيكون خاليا من حضورها ومن اهتمامها به، وهناك التقت بشاب مثقف هو «بكر خيرت» الذى كان صديقا لإسماعيل واتفقا على الزواج بعد الحصول على موافقة «بابا دودو» كما كانت تناديه، وهنا ثار الحكيم ثورة طفل يأخذون أمه من بين أحضانه، وراح يهدد هيدى بمقاطعتها وبما هو أسوأ إن قررت الزواج والبقاء فى لندن!، ويروى الكاتب الكبير إبراهيم عبد العزيز أن الأزمة تصاعدت وأن الحكيم ظل على رفضه وتمسكت هيدى بالحصول على موافقته كشرط أساسى للزواج، وهنا تدخل الكاتب محمد سلماوى ليس بصفته شقيق العروس ولكن بصفته الكاتب الشاب الذى يثق فيه الحكيم واقتنع صاحب " الرباط المقدس "وتم الزواج فى لندن وسافر الحكيم وحضر حفل الزفاف وظل متواصلا مع هيدى التى انجبت طفلين اعتبرهما حفيديه مثل أحفاده من ابنته زينب " مريم ومحمد وإسماعيل الذى حمل اسم خاله الراحل وسيحمل مهمة إحياء تراث جده كما سنرى. سرقة القلادتين.. بين سلماوى والحفيد! ".. هذه السطور المحذوفة والسطور التى تليها فى خطابات هى بناء على رغبة السيدة هيدى سلماوى بالاتفاق مع المؤلف منعا لإحرج بعض الشخصيات التى ورد ذكرها فى رسائل الحكيم...". لم أحسد الأستاذ "إبراهيم عبد العزيز" إلا وأنا أقرا هذا الكلام فى أحد هوامش كتابه المهم "الملف الشخصى لتوفيق الحكيم " فقد جلس إلى السيدة هيدى ورآها رأى العين واستمع إلى صوتها كما هو واضح من هوامش وتعليقات الرسائل المنشورة فى الكتاب، وبخل علينا الرجل بصورة واحدة لها فى كتابه بجزئيه الأول والثاني!، وكم تمنيتُ أن أتعرف على ملامح تلك الفتاة التى جددت روح الحكيم وامتلكت ذكاء التعامل مع فيلسوف غاضب وثائر وراغب طول الوقت فى العزلة ،كيف اقتربتْ منه حتى رأت الطفل الساكن بداخله فظهر على غير ما يراه الناس قاسيا وبخيلا!، عموماً.. سامح الله الأستاذ إبراهيم عبد العزيز وغفر له بحق ما بذل من جهد خلال سنوات لكشف الجوانب الإنسانية فى حياة كاتبنا الكبير. على أن الله سبحانه وتعالى منحنى فرصة جديدة فى رؤية السيدة هيدى فهى شقيقة كاتبنا الكبير محمد سلماوى صاحب «الخرز الملون وكونشرتو الناى وأجنحة الفراشة..»، وأظنه لن يبخل علينا بهذه الهدية ،فإن كانت على قيد الحياة فأنا اتوسل إليه أن يجلس إليها من جديد ويكتب لنا جانباً جديدا فى حياة توفيق الحكيم فقد امتلكت وحدها مفاتيح الفيلسوف والروائى والمسرحى وأظنها تستحق التكريم، أما إن كانت قد رحلت إلى رحمة الله فتكفى صورة لها حتى يتعرف عشاق عصفور من الشرق على صاحبة السحر. وقد جاء الأستاذ سلماوى بقصة إسماعيل الحكيم وحكاية زواجه من هيدى فى شهادته الشخصية عن "نجوم الدور السادس بالاهرام" التى كتبها فى (25 ديسمبر 2015) ،وليس اكتشاف علاقة سلماوى بعائلة الحكيم هى التى تشغلنى ، وليست علاقة هيدى ورسائلها، وليست صورة السيدة هيدى أيضا، فما كتبتُ كل ما مضى إلا لكى أصل معك يا صديقى إلى ذلك المقال الشجى ،الحزين، المؤلم الذى كتبه محمد سلماوى ( 17 يوليو 2006 ) وفى ذكرى رحيل الحكيم ،فقد زاره النقيب "إسماعيل نبيل" حفيد رائد المسرح العربى توفيق الحكيم يعرض عليه تحويل منزل جده إلى متحف, وقال الحفيد إن الأسرة انتظرت طويلا تحقيق هذا الحلم، وتعجب سلماوى من عدم وجود متحف أو حتى لافتة على المنزل الذى عاش به واحد من أهم كُتاب العالم وليس مصر وحدها، يقول سلماوي: سألت إسماعيل: هل كان هناك اتفاق لإقامة مثل هذا المتحف؟ فأخرج لى من حقيبته نسخة قديمة من جريدة الأهرام الصادرة يوم29 يوليو1987 وقد ورد بصفحتها الأخيرة خبر مبرز يقول :قال وزير الثقافة د. أحمد هيكل إن الوزارة تفكر بعد الاتفاق مع أسرة الأديب الراحل ومحافظة القاهرة على تحويل منزل توفيق الحكيم الذى يقع بحى جاردن سيتى الى مزار سياحى ومتحف دائم, لاسيما أنه يمثل حقبة طويلة من الفكر المصرى ودوره البارز فى بناء المسرح العربي, وسألت إسماعيل إن كان أحد منذ نشر هذا الخبر قبل19 عاما قد اتصل بهم بهذا الخصوص فنفى لى ذلك.." المدهش والعجيب أن الحفيد ومنذ تاريخ نشر هذا المقال يوليو 2006 مازال حائراً حتى اليوم!! ، فلم تشفع له كتابات سلماوى الذى ترأس اتحاد الكتاب فيما بعد ،كما لم تشفع مكانة جده الأدبية فى مصر وخارجها!، فقد نجحتْ الصحفية الشابة زينب إبراهيم فى الوصول إليه مؤخراً وانفردت بنشر حوار معه فى صحيفة الدستور بتاريخ 9 يونيو 2018 أكد فيه أنه مازال يسعى فى أمر تخصيص متحف لأثار جده لكن لا حياة لمن تنادي! ،وقال الحفيد فى مرارة وآسى : منذ توليت حقوق التأليف والنشر لتوفيق الحكيم أى من حوالى عشرين سنة، كلمت وزراء الثقافة واتحاد الكتاب فى الأمر فلم أحصل على إجابة محددة! الأخطر من تجاهل المسئولين لمطالبات الحفيد هو ما صرح به حول سرقة أغلب مقتنيات الحكيم قائلًا: ".. أكبر قلادتين حصل عليهما توفيق الحكيم هما "قلادة النيل"، و"قلادة الجمهورية"، وقد اختفت القلادتان فى ظروف غامضة..". لا أجد كلمات أعلق بها على ما يحدث مع توفيق الحكيم وأحفاده وتاريخه،ولا أجد ختاما لهذا الكلام ، فالخجل سيد الموقف إلى أن تتكشف حقائق واضحة ومحددة عن أسباب تعثر إقامة متحف للحكيم ، وحيثيات اختفاء القلادتين. ..... ولد توفيق الحكيم فى 9 أكتوبر 1898 ورحل عن عالمنا فى 26 يوليو 1987