ثلاث فتيات خططن بجسارة, وفي تكتم شديد, لمغامرة فنية وسياسية, ربما لا مثيل لها من قبل. لقد أردن إعلان احتجاجهن الصارخ والواضح ضد القيصر الذي يحكم البلاد بالقبضة الفولاذية لأجهزة الأمن ولم يترددن وتسللن إلي كاتدرائية في قلب موسكو. وكن يرتدين أزياء زاهية ألوانها. ولم ينتبه أحد من الحاضرين ولا من رجال الأمن لما يحدث فقد كانت المفاجأة محكمة وشاملة, وتجلت روعتها, عندما بدأت الفتيات في أداء أغنية يتضرعن فيها للسيدة العذراء أن تخلص روسيا من حكم بوتين وأعربن عن غضبهن من تأييد بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية لبوتين في حملته الانتخابية للرئاسة. وانتبه رجال الأمن, وألقوا القبض علي الفتيات الثلاث أعضاء فرقة يوسي رايت, وتم ترحيلهن إلي السجن, توطئة للتحقيق معهن ومحاكمتهن. وهذا ما حدث في12 فبراير الماضي(2102), واضطربت روسيا, في وقت كانت المظاهرات والاحتجاجات مستمرة ضد بوتين لترشحه لولاية ثالثة في انتخابات الرئاسة في مارس.2102 وانطلقت أغنية الفتيات الثلاث وسط موجة من الغضب العارم الذي يجتاح الجيل الجديد الذي فطن إلي أن بوتين منذ أن اعتلي عرش الكرملين عام0002 شرع في تأسيس امبراطوريته الخاصة, وهي ترتكز علي أجهزة الأمن والمخابرات, وهو بهذه الأجهزة كان عليما وخبيرا باعتباره ضابطا سابقا في المخابرات. وكان بوتين قد تمكن من انتزاع موافقة الشعب علي منحه سلطات مطلقة في مقابل إعادة الأمن إلي البلاد. ذلك أن الأمن كان قد انفرط عقده, وعمت الفوضي, وجمحت الجريمة إبان السنوات الكئيبة لحكم بوريس يلتسين أول رئيس روسي تولي السلطة, عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام.1991 واستطاع وأد الانفلات الأمني. وحالفته الظروف المواتية, عندما زادت أسعار البترول فانتعش الاقتصاد بعائداتها الوفيرة, وربما هذا ما جعله يدخل النفق المظلم لإغراء السلطة وغواياته. وهو ما بدا عندما التصق بها التصاقا شديدا, واختراعه لنظام غريب لتبادل السلطة بحيث يبقي مهيمنا ومسيطرا. {{{ وقد جرؤ وطبق هذا النظام الغريب في نهاية الفترة الثانية من رئاسته, واختار صديقه ميدفيديف ليصبح رئيسا لفترة واحدة, علي أن يتولي هو رئاسة الوزراء وعندما انتهت المهمة الشرفية للصديق, عاد بوتين لعرش الكرملين, وتولي صديقه رئاسة الوزراء, علي رغم المظاهرات والاحتجاجات. ومعني هذا أن امبراطورية ضابط المخابرات السابق لا تزال أركانها قوية, خاصة أن أقطابها ترتبط مصالحهم ببقاء بوتين علي قمة السلطة غير أن ناشطة سياسية روسية تقول ان سفينة حكم بوتين سوف تصطدم بجبل الجليد, اذا لم تغير مسارها, ويستجيب ربانها لمطالب الجيل الجديد. والأرجح أنها لن تغير مسارها, ذلك أن القيصر يمعن في تكريس سلطاته المطلقة. ولأن الأمر كذلك, فإن باحثا وخبيرا روسيا هو نيقولاي بيتروف يري ان السبيل لإمكان ازاحة بوتين في المستقبل المنظور قد يأتي عبر انقلاب داخل القصر, بمعني ان تنقلب عليه القوي المحيطة به والداعمة لنظامه لو أدركت أن استمراره يشكل خطرا داهما علي مصالحها. ويبقي هذا الرأي مجرد أمنية حتي إشعار آخر. {{{ ولا تزال الفتيات الثلاث يرددن أغنيتهن التي تثير غضب القيصر.. ويتضرعن للسيدة العذراء أن تخلص البلاد منه. والمدهش أنهن انشدن اغنية جديدة يقلن فيها إن روسيا تمضي في الطريق بشجاعة.. وإن البلاد تقول وداعا لنظام بوتين. وقد سجلن هذه الأغنية سرا إبان فترة سجنهن رهن التحقيق والمحاكمة منذ فبراير الماضي.. وصدحن بها عندما صدر حكم جائر بسجنهن لمدة عامين, منذ أيام. إن المشهد الروسي ينذر بأحداث جسام, فلم يعد الصمت ممكنا علي الطغاة. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي