تكتسب شهادة الباحث الفرنسي ريشار جاكمون علي واقع النشر في مصر, أهمية خاصة، فبالاضافة الي مكانته كدارس متميز للادب العربي، يجوز أيضا النظر اليه كخبير في سوق النشر. فقد عمل لسنوات طويلة مسئولا عن بعثة الترجمة التي كانت تابعة للسفارة الفرنسية في مصر ونجح طوال ما يزيد عن عشر سنوات خلال حقبة التسعينيات في التعاون مع عدد من دور النشر المصرية لاصدار ترجمة عربية لمؤلفات فرنسية مهمة في حقول الادب والاعمال الفكرية. كما ترجم ريشار جاكمون أعمالا لصنع الله ابراهيم وغيره الي الفرنسية وشارك في تنظيم جولات أدبية لكتاب مصريين وعرب في الجامعات الفرنسية واستفاد من كل تلك الخبرات في رسالته التي نال بها درجة الدكتوراه عن الحقل الادبي في مصر, وهي دراسة مهمة في سيوسولوجيا الادب ترجمت الي اللغة العربية تحت عنوان بين كتاب وكتبة كما صدرت لها طبعة انجليزية عن الجامعة الامريكيةبالقاهرة قبل عامين وهنا حوار معه عن متغييرات سوق النشر المصرية. وفي بداية الحوار أكد جاكمون ان ظاهرة الكتاب الاعلي مبيعا البيست سيلرز ليست جديدة كما يتصور البعض فقد كانت معروفة منذ بداية القرن العشرين وحتي الان, كما كانت الفجوة قائمة طوال الوقت بين الكتاب دالطليعيين الذين يكتسبون قيمتهم من القدرة علي احداث ثورات أدبية علي المستوي الجمالي وبين هؤلاء الذين يحققون نجاحا جماهيريا وتجاريا. ولفت ريشار الي ان النجاح الذي حققته أعمال الكاتب علاء الاسواني حقيقي سواء في الداخل والخارج وتدعمه أرقام المبيعات ولكن لا يمكن النظر اليه كمعيار للقيمة الجمالية, فنجاح الأسواني علي حد قوله: كان يصعب التنبؤ به علي الرغم من أنه خلق كتابة متقنة وبأسلوب احترافي لكنه لم يأت بجديد علي المستوي الجمالي وانما أوجد توليفة ذكية للنجاح تتجاوب مع توقعات القراء العاديين وتكمل ظواهر أخري موجودة في السرد التليفزيوني بحيث رأي هؤلاء القراء في أعماله وسيلة مريحة لإبداء حقهم في النقد الاجتماعي والسياسي وبطريقة لم تتوافر في أعمال أخري. وأوضح جاكمون ان خطورة مثل تلك النماذج أنها' تشوه المعايير الأدبية الفنية, بحيث ينظر دائما الي درجة المقروئية كمعيار وحيد للقيمة, وهذا ليس صحيحا دائما وطوال الوقت علينا الا نخضع لهذا الربط بين النجاح التجاري والقيمة الأدبية' وقال جاكمون: ان سوق النشر في مصر تشهد تغييرات بطيئة علي المستوي الاحترافي, اذ تفتقد غالبية العناوين المنشورة الي بيانات نشر صحيحة تعين الباحثين, فدار الشروق علي سبيل المثال اعادت نشر أولاد حارتنا نقلا عن طبعة دار الاداب ولم تفكر في مقارنتها مع نسخة العمل التي نشرتها صحيفة الاهرام عام1959 وهناك نموذج اخر لغياب المعايير الاحترافية يوجد في سلسلة' ميراث الترجمة' التي تعيد نشر أعمال قديمة تعرضت عند نشرها لاول مرة لتغيير في العناوين ولم يفكر القائمون عليها في بذل اي مجهود للتحري في هذا الشأن واظهار بيانات صحيحة عن تواريخ النشر وظروفه. و انتقد جاكمون غياب مهنة المحرر الذي يعمل مع دور النشر ويساهم معها في تحديد اتجاهات القراءة وايجاد المعايير بشكل صحيح وذلك علي الرغم من التغييرات التي حدثت علي المستوي الجمالي في صناعة الكتاب الذي بات أفضل من النموذج الذي أوجدته سوق النشر خلال الحقبة الناصرية. ويري جاكمون ان هناك' ظاهرة جديدة' تكمن في التحول الذي حدث باتجاه ظهور مكتبات وومنافذ توزيع جديدة تلبي احتياجات شرائح جديدة من الطبقة الوسطي دخلت الي سوق القراءة كما بدأ الناشرون' احترام حقوق الملكية الفكرية' حيث تحرص الغالبية الان في سوق الترجمة علي الحصول علي حقوق النشر من دور النشر الاصلية وهو أمر لم يكن شائعا من قبل. وانتقد ريشار جاكمون الاسلوب الذي تعمل به مؤسسات النشر الحكومية وقال:' لا تزال تلك المؤسسات تعمل دون رصد حقيقي لاتجاهات القراءة فهي ليست مهتمة اطلاقا بالقاريء وتبني سياساتها علي الانتاج الكمي وتسديد الخانات وانفاق أموال الدعم وليس وفقا لقدرتها علي التوزيع أو تلبية حاجات القاريء لذلك فأن غالبية انتاجها الذي نشرت غالبيته بغرض' اكتساب ولاءات جديدة للدولة' يعاني من الركود. واعتبر الباحث الفرنسي ان السياسات الثقافية الرسمية السائدة في مجال النشر ساهمت في تأخير ظهور سوق للنشر تعمل بشكل طبيعي لكن الوضع أفضل الان وأتوقع ان يتحسن مستقبلا مع ظهور مكتبات خاصة في المدن الرئيسية خارج القاهرة. وفي سياق رصده للظواهر الجديدة في حقل الادب المصري في السنوات الاخيرة يعتقد جاكمون ان تلك السنوات تراجع فيها مفهوم الجيل الادبي, ودور الجماعات الادبية مع انحسار دور الجماعات الطليعية وأصبح النجاح له معيار الفردية حيث يسعي كل كاتب الي النجاح والحصول علي مساحة في سوق القراءة. [email protected]