عادة لا يقبل الموظفون فى أى مصلحة حكومية فى مصر أن يبادر أو يتطوع المتعاملون معهم من أصحاب المصالح أو ذوى الاهتمام بل حتى من ذوى العلم أن يسدوا لهم نصيحة ما، قد تجعل من عملهم أكثر احترافية وأكثر سهولة والأهم أكثر نفعا. فالموظف دائما ما يستأسد فى وجه أصحاب المصالح والعلم بقوة سلطته التى كفلها له القانون. هذا الوضع يجعل الموظف يتخيل ويصر دائما على أنه العارف والملم بالطريقة المثلى لإنجاز أى شىء، وأن حق تنظيم سير العمل حقا حصريا له غير قابل للمشاركة أو النقاش. يتصور أن استماعه إلى آراء أخرى يعنى انتقاصا من حقه بل ومن قيمته. الأزمة التى حدثت بين النجم محمد صلاح المحترف فى ليفربول واتحاد الكرة المصرى تعبير جلى عما يمكن أن يحدث حين يصطدم الاحتراف والتطلع الدائم للأفضل بعقلية الموظف الفهلوى الذى يتوهم أنه يعرف كل شيء بالسليقة، والمؤمن بأنه لا ليس فى الإمكان أبدع مما كان، بل ومما هو كائن، وأن الخبرة تجب الموهبة. فمحمد صلاح وضعته تجربة الاحتراف فى عالم آخر يعرف كيف تدار كرة القدم كصناعة وكيف يمكن صناعة النجوم والمحافظة عليهم والاستثمار فيهم اعتمادا على التفكير العلمى وأساليب الإدارة الحديثة. ولم يعد قادرا ولا راغبا فى ظل الخطوات التى خطاها فى تلك التجربة أن يسمح لنفسه بالوقوع فى فخ الفهلوة والفهلوية أو التعامل معهم، فالتعامل معهم يعنى عودة للوراء وربما يناله رذاذ من أمراضهم المعدية بطبيعتها لن يسمح له مجتمعه الجديد بأن يصاب بها أو ينقل عدواها إلى أقرانه فى ليفربول. والأهم أن صلاح بحكم حبه لمنتخبه ووطنه شأنه شأن كل مصرى سافر إلى الخارج فتعلم وأبدع يرى أنه يمكن بشىء من الجدية واتباع قواعد الاحتراف الحقيقية أن يكون الوضع أفضل بكثير مما هو عليه الآن دون إهدار المزيد من الموارد والفرص. ولكن يبدو أن صلاح قد فاته، أن اتحاد كرة القدم المصرى ليس مؤهلا ليستمع إليه بالروح التى تصورها، تماما كما لم تستمع أى مؤسسة بيروقراطية بالتقدير والاهتمام والتفهم الواجب لكل الكفاءات المصرية المهاجرة الساعية لتقديم خدماتها لوطنها كل فى مجاله. فقد سارع اتحاد الموظفين الذى يتصور أنه اقتنص كرة القدم المصرية ومستقبلها إلى نشر خطاب صلاح، الذى يفترض أنه خطاب خاص بين لاعب واتحاد الكرة، وهو ما فهمه المنتفعون من الاتحاد وأعضائه على أنه ضوء أخضر للنيل من صلاح وذبحه أمام الجمهور، فتم التركيز من بين كل الطلبات التى احتواها خطابه للاتحاد على طلبه حراسا شخصيين له، ليبدو وكأنه بات متعاليا على المنتخب، ثم بالطبع على مشجعيه ووطنه. ومن الواضح أن رهان الاتحاد كان على أن الاستياء الذى سيتمكن من الجمهور من هكذا طلب فى مثل تلك الظروف التى تمر بها مصر، ومن هكذا طريقة فى التعامل مع الاتحاد سيدفع الجمهور للاصطفاف خلف الاتحاد والابتعاد عن صلاح. وهى محاولة بائسة من الاتحاد لكسب قضية، أى قضية، مهما يكن الثمن ومهما تكن الضحية، يبيض بها وجهه جماهيريا ويخفف بها الضغوط التى يتعرض لها والتى وصلت إلى حد مطالبته بالاستقالة بعد صفر المونديال. وكما يقولون انقلب السحر على الساحر، حيث فهمت الجماهير مغزى ما يريده الاتحاد. فالاستياء الجماهيرى من اللغة التى كتب بها المحامى وكيل صلاح خطابه لاتحاد الكرة لم يكن كافيا لدفع الجماهير بعيدا عن صلاح، خاصة، أن صلاح خرج بشكل مباشر إلى الجماهير ليعرض قضيته بشكل صحيح، بينما تخبط الاتحاد فى إدارة الموقف وأسهم أعضاؤه أنفسهم تحت وطأة رغبتهم الملحة فى تبرئة ساحتهم بشكل شخصى فى فضح الاتحاد وتعريته أمام الجماهير مرة أخرى، بعد الفضائح العديدة التى طالته منذ مونديال روسيا، ولا يوجد وحال الاتحاد على ما هو عليه ما يشى بأنها ستكون المرة الأخيرة أو آخر الفضائح والأزمات، مادام لا توجد طريقة أو مخرج لعقابه، وأنه ليس من الوارد فى قاموس ذلك الاتحاد النزول على الرغبة الشعبية وإفساح المجال لآخرين طواعية لقيادة الكرة المصرية. فالاتحاد يتدثر بالصلاحيات الممنوحة له من قبل الاتحاد الدولى لكرة القدم، ويستغل جيدا عدم قدرة الجهة الإدارية على التدخل للجم الانفلات الحادث فى الاتحاد أو التدخل الخشن لمعاقبة الاتحاد وتعديل سلوكه. ومحاولة وزير الشباب الأخيرة للتدخل لإنهاء الأزمة لم تكن إلا فى إطار المحاولات الودية، وليست انطلاقا من واقع مسئوليته عن الرياضة المصرية. فاتحاد الكرة المصرية يقدم نفسه باعتباره دولة مستقلة مقرها الجبلاية، ولا سلطة لأحد عليه إلا من الاتحاد الدولى لكرة القدم (الفيفا)، المسئول الأول والوحيد عن كرة القدم فى العالم وعن اتحاداتها. وحرى بنا هنا تذكر أن الفيفا عاقب قبل عدة أيام رئيس الاتحاد الفلسطينى لكرة القدم جبريل الرجوب بالإيقاف 12 شهرا وغرامة نحو 20 ألف دولار أمريكى بعد التحقيق فى مذكرة الاحتجاج التى تقدم الاتحاد الإسرائيلى لكرة القدم بها إثر إلغاء مباراة إسرائيل والأرجنتين التى كانت مقررة فى شهر يونيو الماضي، إذ برر الجانب الإسرائيلى إلغاء المباراة بتهديدات واستفزازات الجانب الفلسطينى للاعب الأرجنتينى ليونيل ميسى بما دفع الاتحاد الأرجنتينى لإلغاء المباراة. المشكلة الحقيقية هنا تتمثل فى أولا أن الاتحاد الدولى لكرة القدم لا يهمه من قريب أو من بعيد الطريقة التى يتعامل بها الاتحاد المصرى لكرة القدم ولا النتائج التى حققها ولا الآثار السلبية التى يمكن أن تطول المنتخب المصرى فى حال استمرت طريقة الاتحاد فى التعامل مع لاعبى المنتخب وخصوصا لاعبيه المحترفين على ما هى عليه. فكل ما يعنى الاتحاد الدولى هو السيطرة على الاتحادات التابعة له وحمايتها من الدخل الإدارى من الدول أو حتى شبهات التدخل، التى غالبا من يتخذ من وجودها مبررا لمعاقبة الدول كرويا. وثانيا فى أن الصراع الذى فتح بين محمد صلاح واتحاد الكرة لن يؤثر كثيرا فى اتحاد الكرة وأعضائه، بل ربما يخدمهم ويفتح لهم بابا جديدا للوجود والشهرة، ولكنه حتما سيؤثر على النجم محمد صلاح وعلى أدائه داخل الملعب. فالموهوبون دائما ما يتأثر مستواهم بإثارة المشكلات حولهم والدخول فى مشاحنات وصراعات إدارية لا علاقة لها باللعبة. ودائما ما يتفنن الموظفون فى أى مجال بقتل المواهب بإثارة أو بالتركيز على الاعتبارات البيروقراطية والإدارية واللوائح والقوانين. وهو الأمر الذى يعنى أنه يجب التعامل مع أزمة محمد صلاح مع الاتحاد على أنها أكبر من مجرد مشكلة عابرة تحل بالطريقة التى شهدناها خلال الأسبوع الماضي. إذ يبدو أن الاتحاد المصرى قرر التعامل مع محمد صلاح باعتباره مجرد لاعب عادي، أو حتى موظف لدى الاتحاد لابد أن يخضع لما يقرره الاتحاد أيا كانت النتائج، وليس له الحق فى إبداء رأيه أو تقديم اقتراحات، ومن ثم لم ير هو وأعضاؤه فى مخاطبة محمد صلاح أثناء الأزمة وبيانات الاختبار التى أطلقها باسم «المدعو» فيما يشير إلى أن الخلاف اتخذ أبعادا شخصية ستلقى بظلالها على المنتخب الوطنى لا محالة. باختصار شديد، فإننا على أعتاب نجاح جديد لجيش الموظفين ممثلا فى الهواة باتحاد كرة القدم فى مصر لإفشال ناجح جديد، أو إجباره على مغادرتنا. ولنتذكر جميعا ما قاله العالم الكبير الدكتور أحمد زويل: الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء، هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح، ولكن نحن نحارب الناجح حتى يفشل. فمن يوقف اتحاد كرة القدم عن الاستمرار فى تلك الحرب. لمزيد من مقالات د. صبحى عسيلة