منذ سنوات بعيدة علق باحث أمريكى على كتاب كان قد صدر بعنوان: أهم 80 مقالة فى تاريخ الحركة الصهيونية. بقوله: بعد أن قرأت الكتاب فهمت كيف كسب أنصار قضية غير عادلة (حق اليهود فى دولة) أصحاب القضية العادلة (الفلسطينيون) وقلت لنفسي: ليتها ما كانت بالنسبة للفلسطينيين قضية عادلة! ليس مهما فحوى الكتاب الذى أشار إليه الباحث الأمريكي. الأكثر أهمية الرسالة التى تضمنها تعليقه والتى تشير إلى السبب الجوهرى لنجاح الحركة الصهيونية فى تحقيق هدفها بإنشاء دولة اليهود أو إسرائيل، فيما فشل الفلسطينيون وما يزالون فى تحقيق هدفهم المماثل. راهنت الصهيونية على القوة بكل أشكالها: وظفت الأساطير لإقناع اليهود بمغادرة الشتات والعودة إلى صهيون، قرأت الأوضاع الدولية وبحثت عن القوى الأقدر على مساعدتها، ليس بإقناعها بعدالة قضية اليهود، بل بعرض خدماتها على القوى الكبرى: المشاركة فى التحالف الذى قادته إنجلترا ضد ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى بما سمى فى حينها بالفيلق اليهودي، تقديم حاييم وايزمان، الذى كان عالما فى الكيمياء وأحد قادة الحركة الصهيونية، ابتكاره لأسلحة كيميائية أسهمت فى إنهاء الحرب لمصلحة الحلفاء، إقناع الإنجيليين الأمريكيين بتبنى قضية الصهيونية فى أمريكا لأن إقامة دولة اليهود تعنى قرب تحقق النبوءة التى تنتظرها طائفتهم وهى عودة المسيح المخلص، حتى أن أمريكا كانت أول دولة تستخدم تعبير دولة اليهود عام 1924 بدلا من تعبير وطن قومى لليهود كما جاء فى وعد بلفور عام 1917. لم ترفض الحركة الصهيونية أية مقترحات من جانب القوى الكبرى حتى لو تعارضت مع طموحاتها، كانت تقبل بما هو معروض عليها وتسعى إلى تحسينه كلما لاحت فرصة، فوعد بلفور الذى كان يشمل شرق الأردن، تم تقليصه عام 1922 باقتطاع شرق الأردن منه ورغم ذلك قبلت الحركة هذا التعديل ولو على مضض. ما خسرته الحركة الصهيونية بسبب ملاءمة الظروف آن ذاك، عادت لتسترده بالحرب فى عامى 1948، و1967 تجسيدا لمبدأ حافظت عليه وهو: لا ترفض ما يُقدم إليك حتى لو لم يكن يلبى طموحاتك. مسيرة الحركة الصهيونية كما نرى كانت ناجحة وحققت أهدافها، لأنها لم تربط حلمها بإقامة دولة اليهود بقيمة العدالة، حتى وإن حاولت تسخيرها بزيف مفضوح لتبرر توسعها وقمعها للفلسطينيين، بل ربطته بقدراتها الذاتية وقراءتها الذكية لميزان القوى الدولية المتذبذب، فكانت تغير تحالفاتها باستمرار. فبعد أن خاب رهانها على الألمان والإمبراطورية العثمانية حتى الحرب العالمية الأولى، عادت الحركة لتراهن على بريطانيا فحصلت على وعد بلفور. وعندما اتضح لديها أن بريطانيا لم تعد حليفا مفيدا بعد حدها (أى بريطانيا) من هجرة اليهود إلى فلسطين منذ عام 1939، وبعد أن أدركت أن زمن الإمبراطورية البريطانية قد أوشك على الأفول بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945 وأن الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى المنتصرين فى هذه الحرب هما القوتان الصاعدتان اللتان ستشكلان قطبى النظام الدولى الجديد، حرصت الحركة على إقامة الجسور مع كليهما ليكونا أول دولتين تعترفان بالدولة العبرية فى 14 مايو عام 1948. على عكس الحركة الصهيونية ، فشلت الحركة الوطنية الفلسطينية فى التخلص من وهم البحث عن العدالة والحل العادل، الذى كان بدوره هدفا غير واضح المعالم ومجرد لاحقة لمشروعات إقليمية (المشروع القومى والمشروع الإسلامي) والتى نظرت الى القضية الفلسطينية، ليس على أنها قضية شعب يستحق أن يقرر مصيره كما الشعوب الأخرى، بل لإثبات نفسها وتدعيم أسسها شعبيا.الآن ربما حان الوقت لأن ينسى الفلسطينيون البحث عن حل عادل لقضيتهم، وأن يفكروا كما فكرت الحركة الصهيونية: الأهم هو إنشاء الدولة بصرف النظر عن شروط إقامتها حتى لو كانت فى غاية الإجحاف، المهم الآن هو اعتراف دولى رسمى بدولة فلسطين، دولة لها حدود وعلم ونشيد وطابع بريد . وبعدها ستكون هناك مهمتان أساسيتان لهذه الدولة أولها أن تستثمر فى الإنسان وليس فى الأرض، أو فى المشروعات فوق - الوطنية، وثانيها أن تزيد من ارتباطها بالفلسطينيين فى داخل إسرائيل للإبقاء على شعلة وحدة الشعب الفلسطينى تاركين إسرائيل لمشاكلها التى سيفجرها السلام فى الداخل: بين المتدينين والعلمانيين، وبين الاشكناز والسفارديم، وبين الفقراء والأغنياء، وبين اليهود وغير اليهود. دولة فلسطينية مهما كانت طبيعتها هى الهدف الآن ولا ينبغى أن يكون هناك هدف سواه. فإسرائيل تنمو وتستمر، بل تقوى وتتوسع بالحروب، أما السلام حتى لو لم يكن عادلا بالنسبة للفلسطينيين، وهو سيكون كذلك بالفعل فى ظل صفقة القرن، فقد يكون بداية تفكك المجتمع الإسرائيلى من داخله، ولن يؤدى ذلك لإسقاط الدولة العبرية بالضرورة، لكنه سيؤدى حتما إلى وضع ديمغرافى سيحتم إعادة فتح ملف حدود الدولة الفلسطينية من جديد فى المستقبل غير البعيد. لمزيد من مقالات سعيد عكاشة