رغم الظروف الصعبة التى تمر بها القضية الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة عادت القضية إلى بؤرة الاهتمام بعد غياب فرضته الأوضاع العربية منذ عام 2011، ورغم اللغط الذى أثارته ما عرف إعلاميا باسم صفقة القرن، فإن تعليق الرئيس عبد الفتاح السيسى خلال الجلسة الأخيرة للمؤتمر الوطنى السادس للشباب على تلك الصفقة لم ينل حقه من المتابعة والاهتمام، بل لعله كان مثارا للدهشة والاستغراب. ذلك أن اهتمام الرئيس وسعيه الدائم للوصول إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية فى إطار الالتزام بالسياسة المصرية الثابتة تجاه تلك القضية وتجاوبه مع كل الأفكار التى من شأنها المساعدة فى إعادة الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى إلى طاولة المفاوضات الجادة، كان ذلك الاهتمام الدافع لكثيرين للقول بأن الرئيس مؤيد لتلك الصفقة التى ينتوى الرئيس الأمريكى ترامب طرحها، رغم أنها لم تطرح بشكل رسمى بعد. بل إن البعض اتخذ من ذلك مدخلا للهجوم على موقف الرئيس والموقف المصرى برمته من القضية متصورا أن مصر قد تتنازل عن أرض من أراضيها بغية إتمام تلك الصفقة لتحقيق السلام أيا كانت طبيعته. ولم تتوقف أسئلة الشارع وتخوفاته من إمكانية أن يحدث ذلك، رغم الموقف الثابت من الرئيس والقوات المسلحة من رفض التنازل عن أى شبر أو حبة رمل من الأرض المصرية مهما تكن الدوافع. فالموقف المصرى يقوم على دعم أى جهود تضع القضية الفلسطينية على طريق الحل ويقبل ما يقبل به الفلسطينيون وبما لا يخل بالثوابت المصرية والعربية والإسلامية. إنها المرة الأولى التى يتناول فيها الرئيس السيسى صفقة القرن بهذا الشكل منذ بدأ الحديث عنها قبل نحو عام من الآن. إذ وصفها بأنها تعبير إعلامي. ويبدو أن عدم التوقف عند ذلك التصريح حتى من قبل المهتمين بالقضية الفلسطينية يرجع إلى تصور أن الرسالة موجهة للإعلام وكأنها عتاب له باعتباره هو من بالغ فى استخدام ذلك الوصف، بينما الحقيقة أن الرئيس كان ينتقد الصفقة فى حد ذاتها وكان واضحا أنه يعبر عن موقف مصر الثابت فى رفض أية أفكار مما قيل أن الصفقة المزعومة ستتضمنها. إذن وصف الرئيس لصفقة القرن بأنها تعبير إعلامى كان رسالة لكل الأطراف المعنية بالقضية الفلسطينية داخليا وإقليميا ودوليا مفادها أن تلك الصفقة بما سرب عن تفاصيلها مرفوضة مصريا، وأنها بذلك المعنى طرح انتهت مدة صلاحيته، وآن أوان إطلاق رصاصة الرحمة عليه لينضم إلى ما سبقه من أفكار ومبادرات غير منصفة كان مكانها أرفف تاريخ تلك القضية، وما أكثرها. وجدير بالذكر هنا ان ما يحدث لصفقة الرئيس ترامب سبق أن حدث لمبادرة الرئيس الأمريكى السابق أوباما وتحمسه لحل القضية الفلسطينية فى سبتمبر عام 2009 عقب توليه المسئولية، ومن قبله كلينتون بصرف النظر عن الاختلافات بين الأفكار أو المشروعات التى تبناها الرؤساء الثلاثة وبصرف النظر أيضا عن الأسباب التى أدت إلى فشلها ودخولها إلى ذمة التاريخ. وتأكيدا على أن الصفقة لم يعد مرحبا بها وأن كلام الرئيس السيسى يؤسس لموقف عربى عام، فقد جاء الموقف السعودى متفقا وداعما للموقف المصري. إذ أعلن أن الملك سلمان بن عبد العزيز قد عبر عن رفضه أى صفقة لا تتضمن الحديث عن الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدسالشرقية ولا تتضمن تأكيد حق العودة للاجئين الفلسطينيين، إضافة إلى رفضه التنازل عن مبادرة السلام العربية لعام 2002. وهو الموقف الذى رأت فيه بعض الصحف الإسرائيلية إنهاء لصفقة القرن. إذ قالت صحيفة معاريف إن الموقف السعودى قضى على الآمال فى صفقة القرن الأمريكية، وكتب المحلل السياسى للصحيفة شلومو شامير: أن هذا الموقف السعودى يعنى نهاية صفقة القرن، وإن لم يكن إعلانا رسميا، لكنها على ما يبدو تمضى فى هذا الطريق. وتأكيدا على ذلك بدأ الحديث عن نية تأجيل طرح صفقة القرن يتردد بقوة فيما يبدو مخرجا للجانب الأمريكى أو بالأحرى حفظا لماء الوجه. إذ ذكرت صحيفة إسرائيل اليوم الإسرائيلية أن إعلان صفقة القرن سيتم تأجيله إلى ما بعد انتخابات التجديد النصفى الأمريكية والانتخابات الإسرائيلية، تفاديا لاحتمال تأثير بنود الصفقة, التى تتطلب تنازلا إسرائيليا, على ترشيح نواب الحزب الجمهورى الأمريكي، وعلى حظوظ نيتانياهو نفسه فى الفوز بانتخابات لم يحدد لها موعد بعد! خاصة أن الرأى العام الإسرائيلى نفسه بدا متشككا فى إمكانية نجاح صفقة القرن، حيث عبر ثلاثة من كل أربعة إسرائيليين فى استطلاع أجرى قبل نحو الشهر عن اعتقادهم بأن صفقة القرن سوف تفشل رغم اعتقادهم أن ترامب يعمل من أجل مصالح إسرائيل، وأن الصفقة نفسها تأتى فى ذلك السياق. ومع ذلك فإن دخول صفقة القرن مرحلة الموت الإكلينيكى لا يعنى أنها انتهت للأبد على الأقل طبقا لما تشير إليها الأسباب المعلنة لتأجيلها، بل إن موتها تماما لا يعنى انتهاء خطر تصفية القضية ولا يعنى أيضا أن الرئيس الأمريكى بسياسته المشوهة لمقاربة الصراع الفلسطينى الإسرائيلى سينفض يديه من ذلك الصراع أو أنه ربما يغير من سياسته تلك ويقلل من انحيازه ودعمه اللامحدود للجانب الإسرائيلي. وهو ما يفرض ضرورة بل حتمية سعى الفلسطينيين والعرب لبلورة بديل آخر يعتمد على المرجعيات الدولية والمبادرة العربية لتسوية القضية الفلسطينية, أحد أهم أسباب عدم الاستقرار الإقليمى فى المنطقة. وإذا كان الرئيس السيسى والملك سلمان قد أكدا دعمهما الدائم خيارات الشعب الفلسطينى فإنه من الأهمية القصوى الآن أن يبادر الفلسطينيون لبلورة إستراتيجية موحدة وواضحة للتعامل مع ملف الصراع مع إسرائيل. وهى الإستراتيجية التى لا يمكن لها أن تخرج إلى النور بما يحفظ الحقوق والثوابت الفلسطينية ويتصدى لكل الأفكار والمحاولات غير المنصفة التى لن تتوقف دون المصالحة الوطنية الفلسطينية التى تعنى فى النهاية صوتا فلسطينيا واحدا وواضحا يعلو كل الأصوات الأخرى وإن لم يلغها. فغياب تلك الإستراتيجية مثل واحدة من أهم آفات الفلسطينيين عبر مسيرة الصراع العربى الإسرائيلي، إذ إنه نادرا ما بادر الفلسطينيون بطرح مبادرة أو إستراتيجية واقعية واضحة للتعامل مع عملية الصراع أو التسوية وما يطرأ عليها من مستجدات، بل كان الغالب دائما هو الانتظار حتى يتم طرح تصور ما، ثم يقومون بتقييمه والتعامل معه، رفضا أو قبولا أو محاولة لإفشاله وكأن ذلك هو الهدف!. لمزيد من مقالات د. صبحى عسيلة