بعثة من المجموعة الإنمائية «SADC» تطلع على التجربة المصرية في التعليم الرقمي    قيادي بحزب العدل: تطوير القطاع السياحي يحقق رؤية مصر للتنمية المستدامة 2030    استعدادات مكثفة بدمياط الجديدة لأداء شعائر عيد الأضحى    استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه المصري يوم السبت 15 يونيو 2024    تداول 12 ألف طن بضائع بموانئ السويس والبحر الأحمر    مياه المنيا تعلن استمرار خدمات شحن العدادات خلال عطلة عيد الأضحى    القسام تكشف تفاصيل كمين مركب أودى بقوة إسرائيلية غربي مدينة رفح    رغم الفشل الأوروبي.. المستشار الألماني: واثق من الترشح مجددًا    الرقصة الأخيرة.. ميسي يستعد بقوة لمسك الختام مع الارجنتين فى كوبا أمريكا    وفاة حاج عراقي علي جبل عرفات بأزمة قلبية    أردوغان: النصر سيكون للشعب الفلسطيني رغم همجية إسرائيل ومؤيديها    أخبار الأهلي : الأهلي يعقد جلسة حاسمة مع "العريس" ..تعرف على التفاصيل    «رياضة القليوبية» تفتح 120 مركز شباب لصلاة العيد أمام المواطنين    مساجد وساحات صلاة عيد الاضحى 2024 | صور    أبرزهم حسين فهمي ويسرا.. نجوم لم يتصدرو إيرادات شباك التذاكر طوال مشوارهم الفني    المركز الخامس.. عمرو دياب يتصدر تريند يوتيوب ب "العامة"    عيد الأضحى 2024.. «حازم حاسم جدا» يستقبل جمهوره على مسرح ليسيه الحرية بالإسكندرية    لمواليد برج الجوزاء.. توقعات الأبراج في الأسبوع الثالث من يونيو 2024    الدفاع المدنى الفلسطينى: قطاع غزة يشهد إبادة جماعية وقتلا متعمدا للأطفال والنساء    عاجل - مواقيت الصلاة في القاهرة.. موعد أذان المغرب يوم عرفة 2024    حملة للتبرع بالدم بمديرية أمن الأقصر    الكشف على 900 حالة خلال قافلة نفذتها الصحة بمركز الفشن ببنى سويف    موندو ديبورتيفو: نيوكاسل يخطط لضم ثنائي برشلونة    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج الترجمة التخصصية باللغة اليابانية بآداب القاهرة    افتتاح وحدة علاج جلطات ونزيف المخ والسكتة الدماغية الجديدة بمستشفيات جامعة عين شمس.. 25 يونيو    رئيس جامعة المنوفية يهنئ الرئيس السيسي والشعب المصري بحلول عيد الأضحى    أخبار الأهلي : أول رد من الأهلي على تصريحات محمد شريف    عن عمر يناهز 26 عاما.. ناد إنجليزي يعلن وفاة حارس مرماه    سعر الذهب اليوم في مصر يواصل الارتفاع بمنتصف التعاملات    موعد صلاة عيد الأضحى المبارك في بورسعيد    مشاهد خاصة من عرفات.. دعوات وتلبية وفرحة على الوجوه (صور)    تعرف على المقصود برمي الجمرات.. والحكمة منها    بالصور.. مصيف بلطيم يتزين استعدادًا لعيد الأضحى    مؤتمر نصف الكرة الجنوبي يختتم فعالياته بإعلان أعضاء المجلس التنفيذي الجُدد    الصحة السعودية: لم نرصد أي حالات وبائية أو أمراض معدية بين الحجاج    نزلا للاستحمام فغرقا سويًا.. مأساة طالبين في "نيل الصف"    شروط تمويل المطاعم والكافيهات وعربات الطعام من البنك الأهلي.. اعرفها    تدعم إسرائيل والمثلية الجنسية.. تفاصيل حفل بلونديش بعد المطالبة بإلغائه    «تايمز 2024»: الجامعة المصرية اليابانية ال19 عالميًا في الطاقة النظيفة وال38 بتغير المناخ    حملات تموينية مكثفة بمراكز المنيا وتحرير 141 محضرا تموينيا    قبل انطلاق كوبا أمريكا.. رونالدينيو يهاجم لاعبي "السامبا"    بحجة ارتفاع أمواج البحر.. تفاصيل نقل الرصيف العائم من شاطئ غزة إلى ميناء أشدود الإسرائيلي    محمد رمضان يكشف عن أغنيته الجديدة "مفيش كده".. ويعلق: "يوم الوقفة"    مصادر أمنية إسرائيلية: إنهاء عملية رفح خلال أسبوعين.. والاحتفاظ بمحور فيلادلفيا    وفد "العمل" يشارك في الجلسة الختامية للمؤتمر الدولي بجنيف    محطة الدلتا الجديدة لمعالجة المياه تدخل موسوعة "جينيس" بأربعة أرقام قياسية (فيديو)    الاحتلال الإسرائيلي يعلن قصف مبنى عسكري لحزب الله جنوبي لبنان    كفرالشيخ: تحرير 7 محاضر لمخالفات خلال حملات تموينية على المخابز بقلين    سيولة مرورية بمحاور وميادين القاهرة والجيزة    التضامن: تنظم سلسلة من الدورات التدريبية للاخصائيين الاجتماعيين والنفسيين حول الإسعاف النفسي الأولي    يوم عرفة 2024 .. فضل صيامه والأعمال المستحبة به (فيديو)    ننشر أماكن ساحات صلاة عيد الأضحى في السويس    حكم صيام أيام التشريق.. الإفتاء تحسم الجدل    ب«6 آلاف ساحة وفريق من الواعظات».. «الأوقاف» تكشف استعداداتها لصلاة عيد الأضحى    وزير النقل السعودي: 46 ألف موظف مهمتهم خدمة حجاج بيت الله الحرام    أستاذ ذكاء اصطناعي: الروبوتات أصبحت قادرة على محاكاة المشاعر والأحاسيس    بعد تدخل المحامي السويسري، فيفا ينصف الإسماعيلي في قضية المدافع الفلسطيني    دي لا فوينتي: الأمر يبدو أن من لا يفوز فهو فاشل.. وهذا هدفنا في يورو 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صلاح سالم: التأويل المعتزلى للإسلام قادر على الإسهام فى تأسيس حداثة عربية..
الحب هو إيمان نسبى بكائن إنسانى عادى أما الإيمان فهو حب مطلق ل «كائن إلهى» متسام
نشر في الأهرام اليومي يوم 03 - 08 - 2018

الإسلام ليس فقط أركانه الخمسة التقليدية بل كل فكرة خلاقة ترتقى بالتاريخ ولا تتنكر للوحدانية

قبل عشرين عاما قدم صلاح سالم نفسه للمشهد الثقافى بكتابه الأول تجليات العقل السياسى، 1998م. تلاه بكتاب مهم تحولات الهوية والعلاقات العربية التركية، 1999م، طبق فيه مفهوم الجدل الهيجيلى على تحولات الهوية داخل تركيا من العثمانية التقليدية نحو العلمانية الأتاتوركية وصولا إلى مركب العثمانية الجديدة، مازجا على نحو خلاق بين الفلسفة والسياسة بما تقتضيه ضرورة قراءة الواقع فنال عنه جائزة الدولة التشجيعية 2003م. ثم توالت إبداعاته فى المقالات الصحفية العميقة التى منحته ثلاث مرات جائزة دبى المرموقة للصحافة فى المقال السياسى بعد أن دخل عالم الصحافة من باب صفحة الفكر التى كان يشرف عليها الكاتب الراحل سامى خشبة.
خفت أن ينجرف صلاح إلى تيار الكتابة السياسية التى لا تبقى غالبا مهما كانت طرائق تناولها، لأنها تبحث فيما هو آنيّ، لكنه لم يتخل عن إصدار الكتب العميقة المؤلفة، وليس تجميع المقالات. وهكذا قدم للقارئ العربى أعمالا مهمة منها: التفكير السياسى العربى، اللاهوت التاريخى، الأساطير المؤسسة للإسلام السياسى، وصولا إلى جدل الدين والحداثة. قد لا نتفق مع كل ما يقوله، لكننا نتفق مع قيمة اجتهاده حيث يحلل الظاهرة الإسلامية فى سياق تاريخ الفكر الدينى، ويقرأ التراث بمنطق التحليل لا الهدم، ويفتح أبواب العقلانية على أفق الروحانية.
مؤخرا نال صلاح سالم جائزة التفوق من المجلس الأعلى للثقافة، واللافت فى الجائزة هذه المرة أنها تمنح لمثقف عصامى، فصلاح ليس ابنا لشلة على الرغم من عمله بالأهرام، لم يشجعه أحد ولم يساعده أحد فى الوقوف على المسرح الثقافى، بل حفر لنفسه مجرى صغيرا فى التربة المصرية، مدافعا عن الاستنارة الروحية والعلمانية السياسية. إن فرحنا بفوزه يضعنا أمام مسئولية تقديمه للقارئ، نقدا لمشروعه وإثراء لتجربته وتعميدها بالحوار.
دعنى أسألك فى البداية عن تحولات الرحلة التى بدأتها بالفكر السياسى، لماذا عدت إلى التراث. وما الذى استفزك معرفيا لهذه العودة؟
-بدايتى كانت مع الفكر العربى على العموم وليس السياسى فقط بتأثير زكى نجيب محمود ومحمد عابد الجابرى، إلى أن حدثت واقعة أثارت غبارا كثيفا فى أوروبا والعالم العربى عام 2006 وهى محاضرة البابا بنديكتوس السادس عشر أمام طلاب جامعة هايزنبرج فى ألمانيا، والتى قصر فيها الخلاص على الكاثوليكية، حارما منه البروتستانتية، قبل أن ينعطف بحديثه إلى الهجوم على الإسلام مكررا المقولات الاستشراقية الموروثة عن الجدل البيزنطى بأن الإسلام انتشر بحد السيف، وأن النبى محمد ليس إلا رجل حرب. أثارت الواقعة غبارا كثيفا، ومظاهرات فى شتى أنحاء العالم الإسلامى، فكتبت مقالا نشر على صفحة كاملة مع زاوية الكاتب الكبير إبراهيم العريس فى جريدة الحياة اللندنية. وفى اليوم التالى هاتفنى السيد عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية آنذاك، ودعانى إلى وضع هذا المقال فى كتاب سجالى مع الغرب حول القيم المركزية فى الإسلام، يمكن للجامعة العربية أن تترجمه، ورغم ترددى المبدئى أقبلت على المهمة، وبعد عامين صدر كتابى محمد نبى الإنسانية.
لماذا تذكر دائما أن هذا الكتاب كان خطوة مؤسسة فى مشوارك البحثى؟
- لأنه أدخلنى إلى عالم الأديان والميثولوجيا، فإذا بى أعكف لمدة 6 سنوات كاملة من عام 2006 إلى العام 2012 على دراسة جميع الأديان بدءا مما أسميه بتقليد الشرق الأدنى الذى يجمع بين الفرعونى والبابلى والزرادشتى، ثم التقليد الأسيوى الجامع بين الفيدية والبرهمية والبوذية فى الهند، والتاوية والكونفوشية فى الصين. ثم التقليد الغربى اليونانى الرومانى، وصولا إلى التقليد التوحيدى، مما ساعدنى على فهم التجربة الإنسانية بشكل أعمق، وكان مفترضا أن تصدر حصيلة هذه السنوات فى كتاب كبير لكن المشروع تعطل مؤقتا.
كيف تحضرت منهجيا لمثل هذا الكتاب ولماذا تعطل؟
قرأت لأجله 494 مرجعا مهما، ولكنى بعد أن وضعت خطته ووزعت مادته، وجدت نفسى أمام كتاب يستغرق اثنى عشر عاما على الأقل، لإصدار 6 مجلدات، ما كان يعنى أن أعتزل العالم وأتفرغ له. ولأن هذا ترف كبير غير متاح أجلت الفكرة. لكننى رغم ذلك أصدرت من ثنايا فكرته الأساسية كتابين أعتز بهما: المشترك التوحيدى والضمير الإنسانى أرصد فيه ملامح الاستمرارية وحدود الاختلاف فى بنية الأخلاق التوحيدية بين الشرائع السماوية الثلاث. وكتاب اللاهوت التاريخى، الذى يتناول كيفية تطور اللاهوت التوحيدى فى التاريخ، وارتقاء رؤية الله والعالم والإنسان من اليهودية إلى المسيحية والإسلام على نحو يكتشف معه المسلم أنه شريك حقيقى فى إيمان يتطور دون أن ينفصل عن الأصل الإبراهيمى.
تتكلم عن الأديان الثلاثة التوحيدية والأديان بشكل عام كأنها جواهر ثابتة لكن الدين نفسه يحتاج إلى تعريف.. وهل هو النصوص الدينية فقط أم أنه تمثلاتها على الأرض؟
- ثمة تعريفات مدرسية للإسلام تتحدث عنه باعتباره عقيدة وشريعة، وعن الدين عموما باعتباره اعتقادا وطقسا، أى فكرة مركزية عن مطلق إلهى، يتم مناشدتها وتجرى معايشتها من خلال مناسك ترتقى من حد الأسطورة فى الديانات البدائية إلى مستوى العبادة فى الدين التوحيدى، وكلاهما ينضوى فى نصوص شارحة ترسم معالم حياة دينية هى التى تسميها تمثلات النص الدينى، وتعنى أشكال التدين لأن الفكرة قد لا تثبت إذا لم يلتحق بها طقس أو نسك، يشترك فيه جميع المؤمنين، فمن دونه يصبح الاعتقاد مجرد فكرة فلسفية تتسم بالذاتية.
وهل لهذا السبب عاشت الأديان طويلا؟
-نعم لأن الأديان بهذا المعنى تصبح بوتقة صهر اجتماعى، تنشد الخلاص وتخاطب المطلق، ما يجعلها تعيش طويلا حتى لو كانت فاسدة. فالإيمان الحار بإله زائف أو اعتقاد كاذب يحرك الإرادة ويلهم الروح أكثر مما يفعل الاقتناع البارد بحقيقة عقلية أو مفهوم فكرى، ولهذا لم يكن للأفكار الفلسفية مثل هذا الثبات والانتشار المتوافر للأفكار الدينية.
لكن فكرة الديمقراطية، وهى فكرة فلسفية، بقيت كفكرة وممارسة لفترة طويلة..
الديمقراطية ليست فكرة فلسفية بل قالب سياسى يدور حول الحرية كفكرة فلسفية. وقد انتشرت الديمقراطية لأنها تطورت كممارسة عملية. فى المدينة اليونانية كانت الديمقراطية فكرة فوضوية، ولكى يحد أفلاطون من فوضويتها استبعد منها العبيد والأطفال والنساء الذين لم يكن لهم أهلية الأحرار. لكن الحداثة كفلسفة وتجربة هى التى خصبت الديمقراطية بمفاهيم من قبيل النزعة الفردية، والدولة القومية، والعلمانية، على نحو جعل منها إطارا لترسيخ المساواة والحرية، وهذا سر قوتها، حيث استطاعت أن تضم تحت عباءتها جماعات مختلفة، تعاقدوا معا على العيش فى وطن واحد مهما تعددت أديانهم، واتفقوا على إدارة بلادهم لما فيه خيرهم وسعادتهم، ولذا صارت الإطار الأكثر تمثيلا لحيوية المجتمع البشرى.
نعود إلى سيرتك مع الفكر الدينى.. كان ثمة عاطفة دينية فى كتابك محمد نبى الإنسانية كيف تخلصت منها؟
بازدياد البحث والتعرف على شتى الأديان الأخرى كانت العاطفة تتوارى والعقل يتقدم، وهذا ما ظهر نسبيا فى كتابى التالى كونية الإسلام الذى حاز على جائزة مبارك فى الدراسات الإسلامية عام 2009م. ثم ظهر جليا فى المشترك التوحيدى والضمير الإنسانى، وناصعا فى اللاهوت التاريخى. أما جدل الدين والحداثة فيمثل بداية مرحلة النقد التاريخى للظاهرة الدينية. ورغم أننى احتفظت دوما بإيمان روحى ولم أدخل فى مرحلة شك تبدو معتادة لدى من يخوض هذا المعترك، فقد خرجت من هذه التجربة بتسامح عميق إزاء جميع الأديان حتى غير السماوية، التى أدركت مدى خصوبتها الذاتية وقدرتها على إلهام معتنقيها خصوصا البوذية والتاوية، بل إننى وجدت داخلى تأثرا بقيم بوذية من قبيل اللاتعلق الذى يغذى قدرة الإنسان على التسامى، ويمنحه أفقا ذاتيا للخلاص. وهكذا استقر عندى أن المشترك الإنسانى يكاد يسبق الاعتقاد الدينى، وأن الفوارق بين الأديان ليست كبيرة كما يتصور المتزمتون، فالعدو الحقيقى للمتدين ليس المؤمن بعقيدة مغايرة، بل الإنسان غير الأخلاقى، الذى تسيره غرائزه وتحكمه مطامعه حتى تفقده إنسانيته، فمن يفتقد للمثل الرفيعة كالحب والرحمة والتسامح لن يفيده أى اعتقاد، ومن يمتلك تلك المثل سوف يضيف للحياة ولو لم يعتقد فى أى دين.
اسمح لى بهامش اختلاف، فأنت تتحدث بمنطق تاريخى ضد التاريخ.. تتكلم عن ثبات فى التاريخ وتتكلم عن دين واحد ممتد ثم تنفى هذا الدين بالمشترك الإنسانى، فكيف تجمع الثابت التاريخى مع التطور البشري؟
- هناك نظريتان شهيرتان فى فلسفة الدين: الأولى تقول بأن مفهوم الإله الواحد قد ولد فى التاريخ، كمرحلة أرقى فى تطور الدين، أما المراحل الباكرة فتمثلت فى ديانات بدائية: إحيائية، طوطمية، وشامانية (سحرية)، بمعنى أن الأصل فى الأديان هو التعددية، لكن التاريخ اتجه إلى التوحيد بفعل ميل العقل البشرى إلى التجريد فليس هناك وحى إلهى بدئى، ولكن هناك مسيرة عقل ينمو باتجاه صياغة مفاهيم كلية عن الوجود، تصادف أن من بينها مفهوم الإله الكونى. أما الثانية فتقول إن الإله قد مات فى التاريخ لأن الإلوهية فكرة كانت وليدة الخوف والجهل والاغتراب، فلما تطور التاريخ وصار المجتمع أكثر قدرة على تنظيم نفسه فى قوانين وأعراف زال الخوف. ولما زادت المهارات والقدرات على اكتشاف العالم انتفى الجهل، وماتت الخرافة. ولما بنيت المدن ونمى العمران زال الشعور بالاغتراب. وهنا يستنتج عالم الأنثروبولوجيا الدينية أندرو لانج أن الإله، وقد شعر بعدم حاجتنا إليه فقد اعتزلنا، وصار ينظر إلينا من بعيد كإله أرسطو الذى اكتفى بدوره كمحرك أول للكون. أما نيتشه فقد استخلص النتيجة المفزعة بوقاحته المعروفة، معلنا موت الإله منذ ثمانينات القرن التاسع عشر. فى كتابى اللاهوت التاريخى حاولت صياغة نظرية ثالثة سميتها ب التوحيد المتنامى، توفق بين الوحى والتاريخ، تعترف بدور التاريخ فى إنضاج العقل البشرى. وفى الوقت نفسه تؤكد على أصالة الوحى التوحيدى. أساس هذه النظرية أن الإله الكلى (فى ذاته) فكرة بدئية تعذر إدراكها على عقل بشرى بدائى، لكن بترقيه ازدادت قدرته على إدراك مفهوم الإله الكلى، الذى يسيطر على الكون من دون أن يكون محايثا له باطنا فيه أو مرئيا لنا. ولذا فإننى لا أتفق مع التصور السطحى للعلاقة بين الدين والعلم باعتبارها تناقضا حتميا.
أليسا كذلك؟
كلا، لأن التصور التوحيدى عن إله حاكم للطبيعة بقوانين متسقة وكلية وضرورية، دفع البشرية خطوة مهمة على طريق العلم التجريبى الحديث الذى لم يكن ممكنا لو استمرت الظواهر الكبرى كالشمس، الفيضان، والأنهار والأمطار، تسكنها آلهة صغيرة، تديرها بعشوائية تلهث خلف النذور والقرابين. لقد أفضى الاعتقاد التوحيدى إلى تهديم الآلهة الوثنية، وتفريغ الظواهر الطبيعية من القوى الخرافية الساكنة فيها، فانتصر لكلية القوانين العلمية مع انتصاره لكلية الإلوهية، ما يعنى أن التوحيد هو الجذر الأنطولوجي/ الوجودى للتطور الإبستيمولوجي/ المعرفى.
وكأننى أمام عالم كلام هدفه الدفاع عن الله والدين وعن فكره أيضا.. أليس هذا تفكيرا بقناع أيديولوجى يقلل من عقلانيتك؟
كلا، ولكن العقلانية نفسها لها أشكال مختلفة، فمنها المثالية وأيضا النقدية وكلتاهما تفسح المجال للإيمان الروحى. ومنها المادية ممثلة فى التيارات الوضعية، سواء المنطقية أو الميكانيكية، وهى لا تفسح مجالا لهذا الإيمان حيث تتصور الإنسان مجرد مادة تتحرك بآلية منتظمة، حتى إنها تنفى عنه حرية الإرادة، وتفسر سلوكنا وانفعالاتنا بأنها عوارض فسيولوجية لحركة الذرات المادية فى أجسادنا. ولو أخذنا هذا التصور على عواهنه لن ينتفى الإيمان الروحى فقط، بل أيضا المفاهيم المعنوية كالحب، فالحب هو إيمان نسبى بكائن إنسانى عادى، كما أن الإيمان هو حب مطلق لكائن إلهى متسام. وأيضا مفاهيم كالإبداع والخيال، خصوصا الشعر، وأنت شخصيا شاعر، ولو أننا استعملنا اللغة العادية الصماء لما استطعنا فهم ديوانك الأخير دست ظلا، فالظل هنا ليس ظلا ماديا بل معنوى، أليس كذلك؟. ولكن المهم هنا ودوما أن يكون الإيمان روحيا، دون خرافة أو كهانة، وتلك تجربتى الذاتية، فلم أذهب قط حتى وأنا طفل إلى داعية أو شيخ، بل أمارس الإسلام كما يفهمه عقلى ويستلهمه ضميرى، ولو خالفت كل الأئمة فى كل العصور. وقد أخطئ فى أمر ما وأعاتب نفسى، غير أن ذلك يبقى بينى وربى، وتلك هى الوجودية الروحية: وجودية كيركيجارد وباول تيليش وجارك ماريتان ويعقوب برديائيف.
ما بعد الحداثة
نقترب هنا من أطروحات ما بعد الحداثة التى تعيد الاعتبار للدين والأفكار الغيبية باعتبارها مكونات وجدانية واجتماعية للإنسان؟
-هناك مدرستان متقاطعتان فى نقد الحداثة. الأولى تفكيكية تتسم بروح شكية أصيلة، تنزع إلى القطيعة التاريخية وتتحدث عن ضرورة الانتقال إلى ما بعد الحداثة. فى هذا السياق اندرجت جهود فرانسوا ليوتار وجاك دريدا وكل أطياف التيار التفكيكى، الذى لا يزال يتغذى على إسهامات معاصرين كالإيطالى جيانى دى فاتيمو، والأمريكى جون دو كابوتو، اللذين يتحدثان الآن عما يسمونه الفكر الخافت كطريق أمثل لتحقيق التصالح بين الحقائق المختلفة. والفكر الخافت، كما يفهمانه يفضى إلى تمييع الحقائق، وإدارة الحوار بينها عن طريق السلب، أى التعبير عن قضية ما عن طريق نفى نقيضها أكثر منه عن طريق تأكيدها. ينطلق هذا الفهم من نزعة نسبوية، ترفض كل معيار، على نحو يتحول معه العالم إلى فسيفساء من معان لا مركز لها، ما يقود إلى نفى مطلقية القيم الكبرى كالحق والخير والجمال، فتصبح الفضائل وليدة سياقات محلية وخبرات جزئية، يتواضع عليه الشخص أو مجموعة المتفاعلين. وهنا أجدنى متعاطفا بشدة مع المدرسة الثانية النقدية، التى تعتبر ما بعد الحداثة محض صيرورة ضمن كينونة الحداثة نفسها، كمشروع لم يكتمل بعد. هذه النزعة تستلهم روح مدرسة فرانكفورت، التى لا تزال تتجسد الآن فى أعمال يورجن هابرماس، ودعوته الأثيرة إلى عقل تواصلى يقيم حوارا بين الحقائق المختلفة على قاعدة الاحترام المتبادل، خصوصا بين الدين والعلمانية، لأن من يفتح له الباب سوف يدخل بسلام ولن يصر على الاقتحام العاصف للشباك كما يفعل التدين الأصولى الآن، ولهذا أود أن أدخل تعديلا على مصطلح الفكر الخافت ليصبح التفكير الخافت.
لماذا؟
لأن الفكر الخافت يعنى اللامعيارية، وهذا خطر يدخلنا إلى ساحة ما بعد الحقيقة حيث المعانى الرمادية والأشياء الغامضة. أما التفكير الخافت فيعترف بوجود حقيقة ولكنه يراها تعددية ونسبية، ما يعيد بناء النزعة النقدية الكامنة فى مشروع التنوير والحداثة.
ولكن البعض يرى أن ما بعد الحداثة ترد الاعتبار للدين، فى إطار اعترافها الواسع بالتعددية الثقافية. أما الحداثة فترفض جذريا الأفكار الدينية، فكيف تفسر قولك هذا؟
-هذا سؤال شديد القيمة ولكنه ليس شديد الدقة؟
لماذا؟
-لأن ما بعد الحداثة تتكلم عن تفكيك السرديات العظمى، الإيمان كالإلحاد، بمعنى أن كل سردية مبنية على فكرة جوهرية أدت إلى نوع من التسلط باسم الحقيقة يجب تفكيكها، ومن ثم بات رأس الإيمان والإلحاد معا مطلوبين من قبل قوات ما بعد الحداثة، التى ربما تقبل بالممارسات الدينية ولكن باعتبارها طقوسا تنتمى إلى عالم الفلكلور الثقافى، وليس إلى عالم الحقيقة. أما الحداثة فأسست نفسها، فى تصورنا، على قاعدة مطلقات ثلاثة: العقل والإرادة والطبيعة. العقل كفعالية معرفية تتعاطى منهجيا مع الطبيعة.. والإرادة باعتبارها انعكاسا للذات الإنسانية الحرة، القادرة على الاختيار، وعلى الخلاص الذاتى. والطبيعة نفسها باعتبارها مجالا لفاعلية العقل والإرادة الإنسانيين على طريق المعرفة والحرية. ومن ثم نظرت الحداثة إلى اعترافها بالإلوهية باعتباره انتقاصا من ثقتها بتلك المكونات، قبل أن تتطور عبر مسارين: فى الأول كانت محايدة إزاء الله، فليس هناك شعور بالتناقض الحتمى معه، لكنه لم يكن حاضرا يملأ الوجود ويمنح العناية للإنسان، كما كان الإيمان الكانطى. وفى الثانى ناقضت الإله صراحة، حتى أعلنت موته، كما هو فى التنوير الفرنسى اليعقوبى والتنوير الألمانى المادى من فيورباخ وماركس وصولا إلى نيتشه.
وفى تصورى أن الحداثة تحتاج إلى إعادة تأسيس على قاعدة الإلوهية الكونية التى تمد أفق الوجود إلى عالم الغيب، ما قد يسهم فى تقيد النزعات المتطرفة فيها كالفردية المطلقة التى تؤله الإنسان، والعقلانية الأداتية التى تشيئ الإنسان. هذا الحل تعارضه ما بعد الحداثة جوهريا حيث اعتبرت الإيمان محض بقايا خرافات للعقل البشرى يمكن التسامح معها، فليرتد النوبيون فى مصر زيهم، وينشد قبائل الدنجا الزنجية أناشيدهم، ويضع اليابانيون الكيمونو على أجسادهم، ولكنهم جميعا مطالبون، مثلا، بتقنين الشذوذ الجنسى، ورفض إعدام القاتل، ولو كانت معتقداتهم تحض على رفض ذلك. ومن ثم فهى لا تقدم حلا لمأزق الحداثة، الذى يمكن تجاوزه فقط بالتوفيق بين العقلانية النقدية والإيمان الروحى.
الإسلام والحداثة
فى كتاب جدل الدين والحداثة كنت مشغولا بإثبات أن الإسلام دين عقلانى لدرجة شعرت معها بأن عنوان هذا الجزء كان منطقيا لو جاء على طريقة ابن رشد فصل المقال فيما بين الإسلام والحداثة من اتصال، فلماذا ذهبت إلى هذه النتيجة، وهناك من يرى أن الإسلام لديه مشكلة مع الحداثة بسبب الفقه والقوانين التى تم إنتاجها فى القرن السابع الميلادى ومازالت حاكمة إلى الآن؟
- هذا قول برنار لويس الذى يرى أن قوانين الشريعة لا تسمح بوجود قانون مدنى، ما يغلق الباب أمام علمنة الدولة فى المجتمعات الإسلامية. ومن جانبى أتصور أن الحداثة تجربة إنسانية وليست غربية، والفكر المعتزلى يمثل الإسهام الإسلامى فيها عبر مفهومين أثيرين لديه وهما القصدية والقدرية.
فالقصدية تمنح العقل حق فهم النص فى ضوء فهم مقصود الله فى الوجود، أى قراءة النص الكونى مباشرة، ما يسمح بإمكانية للتجديد تفوق مفهوم التأويل لدى ابن رشد ولكن بعض فقهائنا، كالشاطبى، حصروه فى مجال الفقه المقاصد الشرعية. أما مفهوم القدرية فيؤكد قدرة الإنسان على أن يأتى أفعاله ويتحمل مسئوليتها الأخلاقية ككائن حر، وذلك ضد ما ذهب إليه أهل السنة من أن الإنسان لا يفعل إلا بأمر من الله. أما الحل التوفيقى الذى قدمه أبو الحسن الأشعرى، المعتزلى الذى تحول سنيا، وهو مفهوم الكسب فكان فى الجوهر تلفيقيا، صب عمليا فى تيار النزعة الجبرية، وضد التحرر المعتزلى. طبعا جرى هذا فى سياق سياسى ينزع إلى الاستبداد باستمرار، كان من مصلحته سيادة الجبر، ولكن هذا ليس نصا نخجل منه بل تراث يمكن غربلته واستلهام القيم الأكثر حداثة فيه.
فى رواية نجيب محفوظ الشهيرة أولاد حارتنا ورث عرف، كرمز للعلم، المسار الدينى كله. هل تؤمن بأن العلم هو الحاكم الأخير للتاريخ، وأن الأديان كانت مجرد محطات مؤقتة على الطريق؟
- لن ينتهى دور الإيمان فى التاريخ، لأن الإنسان يظل بحاجة إلى مصادر للتسامى الروحى، تمنحه القدرة على الصبر وتجنبه الخوف إزاء مشاعر كالألم والقلق والعدم، كما أن العالم المادى من دون روحانية هو عالم فقير وبليد. ولهذا ستبقى للدين قدرته على الإلهام فى كل العصور، ولكن بشرط أن يتخلى عن ادعاءاته بالقدرة على حكم الواقع. فالبعض يعتقد أن الدين يكون شاملا وإيجابيا، فقط، عندما يتحدث فى كل شيء، ولا يسكت عن أى شيء. ونزعم هنا أن الدين يكون شاملا حقا عندما يصمت عن التفاصيل، ويتسامى على الوقائع المتغيرة، يطرح إجابات على الأسئلة الوجودية حول البدايات والنهايات، والمثل والغايات، فيما يتوقف عن طرح الأسئلة العلمية والعملية عن الوسائل والكيفيات.
وكأنك تفتح الباب بشكل غير مباشر على أسلمة الواقع والمجتمع والعالم؟
بالعكس أنا افتح باب العقل العلمى على الإيمان الروحى، أما الأسلمة فتنبع من اعتقاد البعض أن هناك طرائق إسلامية خاصة فى اكتساب العلم (أسلمة العلوم) أو ممارسة السلطة (الخلافة الشرعية). وهنا نلاحظ الخلط بين المستويين الوجودى والمعرفى. فتحبيذ العلم والدعوة إلى اكتسابه قضية تنبع من الرؤية الإسلامية للوجود، باعتباره دينا إيجابيا يبغى تغيير العالم للأفضل. أما منهجية العلم وطرائقه فى البحث فتاريخية ومكتسبة. وعلى المنوال نفسه فإن ضرورة وجود سلطة لدرجة أنه: لو كنتم ثلاثة فأمّروا عليكم واحدا، مسألة تنبع من الرؤية الإيجابية ذاتها، ولكن شكل هذه السلطة قضية تاريخية، يجب أن تواكب أفضل أشكال الحكم فى كل عصر. وهنا تمييز أخير لابد أن يكون واضحا بين وجود مبادئ عليا للحكم كالعدل والزهد والشورى، جسدها الخلفاء الراشدون، وبين القول بوجود نظرية سياسية متكاملة للحكم، تفترض وجود آليات عملية للرقابة والتوازن والفصل بين السلطات، لا أراها موجودة فى النص القرآنى. نعم يتعين استعادة هذه المبادئ العليا ولكن عبر أشكال الحكم الأكثر حداثة وعقلانية.
عقلانى أم علماني؟
العلمانية هى العقلانية مطبقة على الفضاء السياسى، فالعقلانية مسألة منهجية فى الحداثة تعنى بكيفية اكتساب المعرفة النظرية، أما العلمانية فمسألة تنظيمية تعنى بكيفية ممارسة السلطة وتنظيم المجتمع.
ولكن هل يقبل الإسلام بالعلمانية فعلا أم أنه يعاندها بالضرورة؟
- أزعم أن ثمة صورة جنينية للعلمانية كامنة يمكن التماسها فى ملابسات تولى جميع الخلفاء الراشدين عبر سياقات صراعية، ومفارقات دنيوية وليس على قاعدة أى نص. العلمانية هنا تعنى فقط الأصل الدنيوى للسلطة وأن الحاكم لا يحكم باسم الحق الإلهى ولكن بحسب ما يراه مصلحة للبلاد والعباد، وإذا رجعت إلى أمير ميكيافيلى أو تنين توماس هوبز تجد نفسك أمام صور حديثة للخليفة معاوية الذى اعترف بأنه أخذ السلطة بسيفه، ولم يعد المسلمين سوى بمأكلة حسنة ومشربة حسنة. لكن المؤكد أن علمانية معاوية كانت بدائية، تحتاج إلى تطعيمها بالقيم السياسية الحديثة والليبرالية، وهذا هدفنا التاريخى، الذى لا يقف النص القرآنى دونه، ولكن انجازه يحتاج إلى عقول جسورة وحكام مستنيرين، والبادى أن هؤلاء وأولئك قليلون. ومن جانبى ليس الإسلام هو أركانه الخمسة، ولكنه كل فكرة خلاقة ومبدعة تستطيع أن ترتقى بالتاريخ وأن تجعل العالم أفضل ولو لم يرد بها نص!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.