قبل ما يقارب أربعة عقود كتب المفكر الراحل احمد بهاء الدين مقالة بعنوان العالم يتحول نحو اليمين، وتزامن نشرها مع تنصيب الرئيس الامريكى ريجان، وما ورد فى تلك المقالة به الكثير من الحدس السياسى شأن معظم مقاربات بهاء الدين، فالرجل رأى ما هو أبعد مما تراه العين المجردة فى زمنه ومن خلال العديد من القرائن والحيثيات توصل بهاء الدين الى ان البوصلة الايديولوجية بدأت تتجه نحو اليمين، لكنه قبل ان يتوصل الى ذلك اشار إلى أنه ليس اسيرا للمفاهيم الكلاسيكية المتداولة حول اليمين واليسار، فهذان المصطلحان ابتعدا عن الجذر الذى ينسبان اليه، وهو جلوس اليمين واليسار فى البرلمان البريطانى، بحيث يكون اليمين متجانسا ومطلقا وكذلك اليسار، ورأى فى احزاب اليمين من يوصفون باليسارية، وهذا ما حدث بالفعل حين وصف دنيس هيلى من حزب العمال بانه يمينى، وبالمقابل وصف انطونى بين من حزب المحافظين بأنه يسارى، فالمسألة اصبحت نسبية ولم تعد فى نطاق ثنائية حاسمة، وحل قوس قزح بأطيافه مكان الأبيض والأسود، ومن أهم ما لاحظه بهاء الدين ان ثلاثة من تلاميذ مدرسة المفكر اليمينى ملتون فريدمان أصبحوا رؤساء وهم ريجان فى أمريكا وثاتشر فى بريطانيا ومناحيم بيجين فى إسرائيل، ولو عاش بهاء الدين حتى ايامنا لتأكد من صحة رأيه، وهو يرى ما يسمى الطريق الثالث كمنهج سياسى واقتصادى يفرز قادة رأى عام بدءا من بريطانيا حتى السلطة الفلسطينية، وهؤلاء ومنهم تونى بلير من تلاميذ فيلسوف بريطانى ينسب اليه هذا المنهج . وفى تلك الآونة اصدر بهاء الدين كتابه اسرائيليات الذى عبر به عن وعى فائق ومفارق للسائد فى تلك المرحلة، وتوقع ان اسرائيل التى لا تكف عن الحديث عن السلام هى فى الحقيقة تخشى منه، لأنها بحاجة الى توتير نفسى لليهود وتستخدم ثقافة الخوف لديهم لهدفين اولهما الحفاظ على الحد الادنى من الالتئام الاجتماعى وثانيهما ترويعهم من جيرانهم العرب وكان تقديمه رواية (طوبى للخائفين) ولأول مرة بالعربية نموذجا لذلك، والرواية من تأليف يائيل ديان ابنة الجنرال موشى ديان التى كانت عضوا فى الكنيست وشاركت فى العدوان الثلاثى على مصر فى جبهة سيناء ونشرت مذكراتها عن الحرب. وبالعودة الى توقعات بهاء لاتجاه البوصلة الايديولوجية فى ثمانينيات القرن الماضى نجد انه كان يحتكم لما يراه من تحولات شبه جذرية فى العالم كله، وعلى سبيل المثال لم يخطر ببال احد خصوصا فى العالم الثالث ان ارملة ماوتسى تونج سوف تحاكم بتهمة التطرف اليسارى، وبعد اقل من عشر سنوات من كتابة تلك المقالة انهارت جدران ومفاهيم الى جانب انهيار سور برلين، وبدأت اطروحات من طراز ما كتبه فوكوياما عن نهاية التاريخ، وما كتبه أستاذه الاكاديمى هانتجتون عن صراع الحضارات تمهد لمرحلة يتم فيها استبدال الاعداء التقليديين، لأن الغرب الرأسمالى المدجج نوويا وجد نفسه عاطلا عن الصراع بعد انتهاء الحرب الباردة، وكان لا بد له ان يخترع عدوا بديلا، وفى هذا السياق ظهرت عدة نظريات منها انه استبدل الماركسية كعدو بالاسلام ومنها انه اخترع اعداء صغارا فى القارات كلها ليكون حاصل جمع هؤلاء الاعداء الصغار عدوا عملاقا وبديلا للاتحاد السوفيتى، وهذا بالفعل ما قاله صموئيل هانتجتون فى مقالة نشرت فى مجلة فورين افيرز الامريكية فى ربيع عام 1999. واذا كان بهاء قد مكث اعواما فى غيبوبة قسرية ولاسباب صحية فإن العالم من حوله لم يشاركه هذه الغيبوبة، وتوالت الاحداث دوليا وبانعكاسات اقليمية لتجزم بأن العالم بالفعل يتجه نحو اليمين، وظهرت مجددا شخصيات فى اوروبا لا تجد حرجا فى الجهر بالعنصرية والعودة الى ما سمى المركزية الاوروبية، لكن تنامى الجمعيات المدنية التى أسهم اليسار فى تغذيتها لعب دورا فى ترشيد هذا الاندفاع، وبلغ ذروته فى مؤتمر دربان الذى كان مؤهلا لإحداث تغييرات على الصعيد الدولى، لكن احداث ايلول الامريكية عام 2001 والتى اعقبته، اجهضت مشروعه، لأن ذلك الزلزال الذى وقع فى مانهاتن كانت ولا تزال له ترددات فى القارات الخمس، مما ادى الى التلاعب بالاولويات، بحيث اعلن الرئيس جورج بوش ان من لا يشاركه خندقه هو ضده، وانتهى قوس قزح الليبرالى الذى بشر به الغرب الرأسمالى المنتصر فى الحرب الباردة الى مانوية فارسية، تقوم على الخير والشر فقط، وكان ذلك بمثابة انقلاب على كل ما انجزه العقل الاوروبى منذ النهضة من اطروحات العقل الجدلى والخروج من مدار الثنائيات المغلقة. كان تفكيك الاتحاد السوفيتى احد اهم العوامل لتحول اليسار كى يستبدل دوره ووظيفته، لأنه وجد نفسه اعزل ازاء رأسمالية متوحشة استطالت انيابها الفولاذية وبلغت كل مكان، وقد يكون ذلك احد اسباب ظهور الليبرالية الجديدة وهى خلطة ايديولوجية من يمين سياسى ويمين ميثولوجى، وكان لا بد لهذه الخلطة ان تصل نهاياتها القصوى مع اليمين المسيحى المتطرف والمطرز بحروف توراتية, وكان طاقم جورج بوش الابن من المخابرات المركزية والبنتاجون والدبلوماسية ذات الخوذة من حصاد ذلك المزج والفارق بين مفكر يبحث عن واقع يجسد قراءاته او الايديولوجيا التى يتبناها وبين مفكر يشتبك مع الواقع الحى هو ان الاول يجد نفسه فى مهب عواصف التاريخ، ويتحول الى انطباعى يعكس الامر الواقع، اما المفكر الآخر وهو بالضرورة عضوى كما يصفه الفيلسوف الايطالى جرامشى فهو ليس صدى لما يحدث، ولا يتوقف دوره عند استهلاك ما يفرزه الواقع، بل يسهم فى التغيير، لأن وعيه مفارق لما هو سائد. والمثقفون العرب الذين لمعوا فى ستينيات القرن الماضى ومنهم بهاء الدين بحاجة ملحة الى الاستقراء وليس القراءة فقط، لأن منهم من كان اشبه بزرقاء اليمامة ورأى عن بعد عقود ما سوف يحدث لأن ذلك الجيل العصامى بامتياز لم يستولد بأنابيب احزاب او ايديولوجيات، وقرأ وتأمل وسافر فكانت الرؤية بانورامية، لكن من ابناء ذلك الجيل من اقتصرت مقارباته على ما يراه بالعين المجردة لهذا خيّب المستقبل رهاناته. وما اشار اليه بهاء الدين عن نسبية اليسار واليمين او التقاطع بينهما فى مرحلة ما هو التجسيد الحى لما اسميه البوصلة الايديولوجية التى لا يتسمر سهمها عند زمان او مكان!!. لمزيد من مقالات خيرى منصور