الفتنة المذهبية فرّقت المسلمين والخلاف يجب أن يبقى فى إطاره الفقهى يعد الدكتور أحمد محمود كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر, واحدا من العلماء الذين يتميزون بالفعالية والكفاءة, على صعيد التفاعل مع الخطاب الدينى الذى يقدم المحددات الصحيحة للدين الإسلامي, بحسبانه دين وسطية واعتدال وقبول للآخر, أيا كان سواء من داخل المكون العقدى نفسه أو من خارجه, وله فى ذلك صولات وجولات. وفى حواره مع « الأهرام” تناول الفجوة الحضارية فى الواقع الإسلامي, بين القواعد الصحيحة للدين وما يمارسه المسلمون, ما أدى إلى إحداث خلل فى المنظومة القيمية, فضلا عن اتساع الهوة بين المنتمين للدين أنفسهم, بل والانخراط فى حروب وفتن طائفية ومذهبية, إلى جانب قضايا أخرى حول معوقات العمل الدعوى والكيانات الدينية التى أسستها الجماعات الإرهابية ونافست دور المؤسسات الدينية الرسمية, وإلى نص الحوار:
يبدو أن الواقع الإسلامى غير مريح على الرغم من اتساع مساحات الدعوة, سواء عبر المساجد وزوايا العبادة, أو من خلال وسائط الإعلام المتعددة, فثمة فجوة بين الخطاب الدينى الذى تتبناه هذه الجهات, وما يشهده الواقع فكيف يمكن تجاوز هذه الفجوة ؟ المنطقة تمر بتوترات وأمور يندى لها الجبين من ناحية الأمور السياسية والمجتمعية, وعلى وجه العموم, فإن المؤسسات الإسلامية بخير, بيد أن الخطأ والخطيئة تنبع من أن بعض الدول فى المنطقة, ومنها مصر, سمحت - فى عهود سابقة - لدوائر متطفلة على موائد على العلوم الشرعية, بأن تنشئ كيانات موازية ومحاذية للمؤسسات الرسمية, فمثالا ما جرى فى مصر فإن الأزهر الشريف ظل وحده هو المسئول عن الشئون الإسلامية وفقا لنصوص الدستور, ولكن للأسف ثمة كيانات أخرى ذات توجه سلفى بات لها حضور قوى فى المشهد, وأخذت تمارس الإفتاء والوعظ والخطابة, مركزة على أمور لا ترقى إلى الجوهرية بل تتسم بالهامشية, مما أدى الى التفتت والتشتت فى مسائل فقهية عديدة, كما أن فتاوى هذه الكيانات, تناقض منهج الأزهر وبعض رموزها يحاولون وضع جدار عازل بين علمائه وعموم المسلمين, بالذات فيما يتحدثون به عن ارتباط الأزهر بالمذهب الأشعري, وهو فى منظورهم ينطوى على الزيغ والبطلان أى أنه كفر لأن العقيدة لا تتجزأ, وهنا أتساءل لماذا تطالب الدولة الأزهر بتجديد الخطاب الدينى ما دام هو يبنى والتيار السلفى يهدم؟! فالدولة فى رأيى هى المسئولة عن هذا التمدد للتيار السلفى خلال السنوات الطويلة الماضية, بينما لم يكن للأزهر أى ولاية للحد من هذا التمدد, وإن كانت وزارة الأوقاف قد اتخذت خطوات عديدة فى السنوات القليلة الماضية, لتقليص وتحجيم نفوذهم والذى كان قد امتد الى مساجد مهمة كانت تابعة للوزارة فى بعض المحافظات. ولاشك أن انتشار السلفية الجهادية فى بعض المناطق بالذات فى سيناء وجنوب مصر, خلال حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك, كان واحدا من الأسباب التى أدت الى انتشار الظاهرة الإرهابية والتى مازالت تجلياتها مستمرة, وإن كانت جهود القوات المسلحة وقوات الأمن تعمل على القضاء عليها وهو جهد مقدر, ويجب أن يحظى بالدعم والإسناد من الجميع. ما زال السؤال قائما ولكن بصيغة أخرى فعلى الرغم من الجهود, التى تبذلها المؤسسات الإسلامية وغيرها فإن هناك حالة فجوة حضارية مع الإسلام نراها فى السلوك والمعاملات, مع محدودية المساهمة الإيجابية فى النهوض بالأمة والوطن, وتعظيم قيم العمل والإنتاج والجودة والكفاءة؟ كيف تفسر هذه الفجوة؟ فى تقديرى ثمة غياب للتنسيق بين مؤسسات الدولة ,وتجاوز هذه الفجوة الحضارية ليس منوطا بالأزهر فحسب, وإنما من الأهمية بمكان أن تفعل جهات عديدة فى الوقت نفسه أدوارها, فى مقدمتها وزارات التربية والتعليم والثقافة, والشباب والرياضة, والتضامن الاجتماعى فضلا عن الإعلام بكل وسائطه, سواء دينية أو أخرى والتى باتت فى حاجة الى تنقية, لكن الأمور خلال العقود الأخيرة تركت بمنأى عن التنسيق والتفاعل بين كل هذه الجهات, ما أفضى الى تداعيات لا تتسم بالإيجابية فى واقعنا الحضاري, ومن ثم فإنه يجب بناء منظومة متكاملة دون أن يتحمل الأزهر المسئولية وحده, فذلك ظلم بين له, فالمجتمع كله مسئول عن الخطاب الدينى ومهمة تجديده وتقديمه على نحو يعلى من منسوب فعاليته فى حياتنا, ويفتح أفق التحديث والاعتدال والوسطية الحقيقية, بعيدا عن مفاهيم التشدد والتطرف التى كانت لها سطوتها فى فترات سابقة. ما المدخل المطلوب فى رأيك لتجديد الخطاب الدينى على نحو أكثر فعالية؟ نقطة البداية هى القضاء على فوضى الخطاب الدعوي، فالاتجاهات - للأسف - متعارضة, فهناك مؤسسة الأزهر فى مصر والى جانبها دار الإفتاء ووزارة الأوقاف, وبالتوازى مع هذه المؤسسات هناك المؤسسات السلفية وبقايا الإخوان الذين رغم إزاحتهم من السلطة فى الثلاثين من يونيو 2013, ما زالوا يتمتعون بحضور متواصل على المستويين الدعوى والفكرى وهو ما أدى الى تمزقنا، والنأى عما نهانا الله عنه فى سورة الإنعام: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِى شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»، وفى سورة الروم: «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»، وفى سورة الشوري:»أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»، ومن قبل فى سورة آل عمران: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا»، ومبعث الخطورة, هو أن التناقضات بين المسلمين بلغت حد الصراعات والنزاعات المسلحة بين السنى والشيعي, ما يجسد بعمق الأزمة على هذا الصعيد, ونحن لا نرفض المذهبية العلمية إذا بقيت فى سياقها الفقهي, ولكن أن تتحول الى طائفية مجتمعية وتتعامل فيما بينها بالتكفير والتفسيق والتبديع والتشريك والإقصاء والتخطئة، فذلك هو الفساد بعينه الذى يتعين التصدى له لحماية الإسلام والمسلمين. تتبنى على المستوى الفكرى والتطبيقى من خلال المؤسسة الخيرية التى تترأسها مسألة التقريب بين المذاهب, ولكن على الرغم من انعقاد الكثير من المؤتمرات التى بحثت هذه المسألة والجهود المتنوعة فى هذا الشأن، إلا أن المسافة ما زالت متباعدة بين المذاهب، بل رأينا اتساعها على نحو خطير, لماذا وكيف يمكن الوصول الى نقطة القواسم المشتركة فيما بين هذه المذاهب الإسلامية؟ ثمة شيوخ للأزهر بذلوا جهودا طيبة فى هذا المضمار فى مقدمتهم الشيخ محمد الظواهرى والشيخ عبد المجيد سليم ثم الشيخ محمود شلتوت، لكن فى حقيقة الأمر كانت هناك دوائر سلفية عملت على وأد مساحات التقريب بين المذاهب مستغلة للأسف بعض الوسائل وفى مقدمتها وسيلة المال والتى يضعف أمامها البعض، وقد عملت هذه الدوائر على الدخول فى صراعات مع الأزهر ومع الشيعة والمذهب الإباضى فى سلطنة عمان وغير ذلك من مذاهب لا تروق لها، مما جر المسلمين إلى معارك فرعية استنفدت طاقتهم، وكانت النتيجة ما نراه حاليا فى المشهد الإسلامى من صراع مذهبى متأجج. لكن ألا تلاحظ أن هناك دعوة قوية فى العالم الإسلامى للحوار مع الآخر غير المسلم, وهو أمر ليس مرفوضا, غير أنه تغيب فى الوقت نفسه الدعوة إلى الحوار الداخلى بين المسلمين؟ إن جماعات الإرهاب الفكرى تنفسح صدورها وعقولها للتقارب مع الأمريكيين والأوروبيين, بينما تضيق عبارتها عندما يتعلق الأمر بالمسلمين. فى خطوات محددة ما المطلوب للقيام بتقارب حقيقى بين المذاهب الإسلامية؟ الأمر يتطلب بادئ ذى بدء الانخراط فى حوار حقيقى وجاد وفعال بين رموز هذه المذاهب، فى جلسات عصف فكرى يتم خلالها الوقوف على ملاحظات كل مذهب وتحديد طبيعة الخلافات القائمة بوضوح وكيفية تجسير الهوة وبناء القواسم المشتركة, وقد قامت المؤسسة التى أشرف برئاستها واسمها “مؤسسة التآلف بين الناس” بتنظيم مؤتمر العام الماضى ركز على هذه النقاط وخرج بتوصيات مهمة نتطلع إلى أن ترى النور فى واقعنا فى مقدمتها الدعوة إلى تأسيس قناة فضائية للتقريب بين المذاهب, فالتقريب بين المذاهب الإسلامية، بات ضرورة ملحة بعد تفاقم الحروب القائمة فى المنطقة.