ليست المرة الأولى التى يتجاذب فيها المصريون أطراف الحديث عن موجة جديدة من ارتفاع الأسعار على خلفية ارتفاع أسعار الوقود. فما يتم الحديث عنه الآن هو المرة الرابعة منذ بدأ الرئيس السيسى السير بمصر فى طريق الإصلاح الاقتصادى الحقيقى الشاق بطبيعته. وبالطبع فإن رفع أسعار الوقود ليست المرة الأولى فى تاريخ مصر، ولكن ما يختلف حاليا هو أن عملية رفع أسعار الوقود تأتى تنفيذا لرؤية واضحة وشجاعة لإصلاح الخلل فى منظومة الدعم بشكل عام وفى قطاع الوقود بشكل خاص. المرات الثلاث السابقة لرفع أسعار الوقود حدثت فى ظل أسعار منخفضة أو معقولة لأسعار النفط عالميا، خاصة أن مصر تستورد ما يقرب من نصف احتياجاتها من الوقود من الخارج. وهو ما يعنى أن أى تحرك فى الأسعار العالمية للنفط يعنى تأثيرا مباشرا على أسعار الوقود. ويطرح وصول سعر برميل النفط إلى ما بين 75 إلى 80 دولارا سؤالا إجباريا يجب على الدولة والمواطنين الإجابة عليه وطرح البدائل المتصورة للتعامل معه، هذا السؤال هو من يدفع فاتورة ذلك الارتفاع؟!. فالدولة التى تسير فى تطبيق برنامجها للإصلاح الاقتصادى وما يتضمنه من تحرير أسعار الوقود وضعت موازنتها للعام المالى المقبل على أساس أن سعر برميل النفط حوالى 67 دولارا وكانت تستهدف تخفيض دعم الوقود بنسبة 26% ذلك العام طبقا للجدول المعد للوصول إلى التحرير الكامل لأسعار الوقود. ومن ثم خفضت الدعم المخصص للوقود فى الموازنة ليصل إلى نحو 89 مليار جنيه. المشكلة الآن هى فى زيادة برميل النفط بحوالى 10 دولارات عما كان متصورا وهو ما يعنى مضاعفة العبء المطلوب تحمله. وكما يقول المتخصصون فإن كل دولار زيادة فى سعر برميل النفط يعنى زيادة 3.5 مليار جنيه فى قيمة استهلاك الوقود فى مصر. وهو ما يعنى أن فاتورة دعم الوقود فى مصر سترتفع بما لا يقل عن 40 مليار جنيه، أى من 120 مليارا إلى 160 مليارا فى ظل سعر برميل النفط الحالي. أما الفارق بين ما كانت تهدف الحكومة فى الوصول إليه بشأن دعم الوقود وهو 89 مليارا والأمر الواقع حاليا وهو 160 مليارا فيصل إلى ما لا يقل عن 70 مليار جنيه ستكون بمثابة عجز صاف لا تتحمله الموازنة ويذهب بما تم تحقيقه فى برنامج تحرير أسعار الوقود فى حال ظلت الأمور على ما هى عليه وفى حال لم يواصل سعر برميل النفط ارتفاعه ليتخطى المستويات الحالية. المشكلة ليست فى أن الشعب يتعامل مع الموضوع كما لو أنه قد تفاجأ به، رغم أن البعض يعزف على تلك النغمة، بل المشكلة الأهم هى أن الحكومة تعاملت على ذلك النحو هى الأخري. فهرعت الآن لإحاطة الرأى العام بأبعاد الأزمة وتكلفة ما تتحمله من دعم فى ظل الأسعار الجديدة. وكان من المفترض أن الحكومة وهى تبدأ مسيرة الإصلاح تدرك جيدا أن الإصلاح فى ظل الظروف التى تمر بها مصر يشبه الدواء المر الذى يتجرعه المريض طلبا للشفاء، كان عليها أن تدرك أيضا أنه لا يكفى أن يعرف المريض أن عليه تجرع الدواء المر، ولكن لابد من العمل على رفع روحه المعنوية باستمرار وتذكيره دائما بأهمية الاستمرار فى تجرع الدواء فى مواعيده المحددة حتى لا تحدث انتكاسة، بدلا من أن تفاجأ بأن المريض الذى يئن تحت ضغوط المرض يتخوف أو حتى قد يرفض تجرع الدواء الذى وافق عليه ويعلم جيدا أنه لا بديل عنه، خاصة وأن هناك من «يزن» عليه ليل نهار ويعمل على إقناعه بأن الدواء الذى يتعاطاه لم يأت بنتيجة ملموسة حتى الآن، ومن ثم عليه الإقلاع عن ذلك الدواء. وكما يقول المثل الشعبى فإن «الزن على الودان أمر من السحر». بتعبير آخر فإن جزءا كبيرا من التقصير الذى تتحمله الحكومة والذى تحاول علاجه الآن يتمثل فى غياب الإستراتيجية الإعلامية للتعامل مع تحديات الوضع الاقتصادى وإبقاء الرأى العام على اتصال أو اهتمام دائم بتطورات ذلك الوضع. فلو أن تلك الإستراتيجية كانت موجودة لكانت قد فرضت ضرورة التعامل أو على الأقل مناقشة تداعيات ارتفاع أسعار النفط عالميا على أسعار الوقود منذ اليوم الأول لبداية ارتفاع الأسعار عالميا. فمتابعة أسعار النفط عالميا فى ظروفنا الراهنة لا تقل أهمية عن متابعة سعر الصرف وأسعار الذهب. ما تقوم به الدولة حاليا ووسائل الإعلام هو محاولة وضع الحقيقة أو بالأحرى التحدى أمام الرأى العام. المحاولة متأخرة ولكن أن تأتى متأخرا خير من ألا تأتي. والسؤال هو من يدفع الفاتورة الآن؟ هل يمكن أن تتحمل الدولة بمفردها الآن غلاء أسعار النفط والتخلى عن خطتها لاستكمال الطريق الذى بدأته خلال السنوات الأربع الماضية؟ الإجابة بكل تأكيد «لا». وليس من المتصور التضحية بما تم إنجازه. أيضا هل يمكن تحميل المواطنين الفاتورة كاملة. الإجابة أيضا «لا». فالفاتورة أكبر من أن يتحملها المواطنون فى ظل تلك الظروف. إذن لا بديل عن تقاسم تلك الفاتورة. بحيث نتحمل جميعا تكلفة ما فرضته علينا الأسعار العالمية وتتحمل الحكومة تأجيل تخفيض دعم الوقود الذى كانت تطمح فى تحقيقه. بتعبير آخر فإن القضية يجب أن تطرح على الرأى العام من زاوية أن الأمر الواقع يفرض ضرورة تحمل زيادة سعر برميل النفط والإعلان عن تأجيل الوصول إلى المستهدف فى برنامج تحرير أسعار الوقود. وفى كل الأحوال فإن على الحكومة تفعيل شبكات الضمان الاجتماعى الموجودة، وأن تقدم نموذجا مختلفا عن المرات السابقة فى ضبط الأسواق والزيادات المتوقعة فى أسعار مختلف السلع والخدمات، حتى لا تحدث انفلاتات فى الأسعار تزيد من أعباء ومعاناة المواطنين. ومرة أخرى فإن الدور الإعلامى والتوعوى لابد أن يظل حاضرا وبقوة تأمينا للمواطنين من دعايات المتربصين بالدولة والمتنطعين الذين لا يتركون فرصة للمتاجرة بأعباء وآلام الشعب دون أن يقدموا بديلا يمكن التعويل عليها لمستقبل أفضل، بل إنهم كانوا سببا من أسباب ما وصلنا إليه. لمزيد من مقالات ◀ د. صبحى عسيلة