في قراءة سيرة الإمام علي بن ابي طالب يحتار المرء كثيرا ويكاد لا يصدق ما حدث، لا نقصد إسلامه صبيا يافعا أو نومه في فراش الرسول وقت الهجرة من مكة إلي المدينة مخاطرا بحياته، لكن الحيرة تخص زمن خلافته، وقد امتحن الله عصره بالفتنة والاضطرابات والصراعات الكبري التي حفرت لها (أخاديد ودروبا) في حركة التاريخ، مازالت ممتدة في الزمان ونعاني بعض اثارها حتي الآن، ولا يبدو لها نهاية، مع أن الامام علي كان من أشد الرجال حرصا علي العدل وحبا في الحق، وتوافرت في شخصه كل مقومات الحكم الصالح ونبل القيادة الرشيدة، وقال فيه الرسول صلي الله عليه وسلم: (أنت سيد في الدنيا، سيد في الآخرة، من أحبك فقد أحبني، وحبيبك حبيب الله، ومن أبغضك أبغضني وبغيضك بغيض الله). لكن دقيق السياسة حين يعجن بزيت الدين تشتعل الدنيا وتولع الفتن وتفترق الطرق وتشهر السيوف من أغمادها وتقف السيدة عائشة ، ومن هي عائشة، في صفوف المعارضين تُقَلب الناس وتقاتل معهم، ضد الحاكم حتي لو كان هذا الحاكم ذا خصال فريدة كتلك التي وصف بها الرسول «عليا». وعلي بن ابي طالب هو الذي قال عن زمنه عبارة شديدة الشيوع لخص فيها حال البشر: (وأعلموا رحمكم الله، إنَّا في زمان القائل فيه بالحق قليل، واللسان عن الصدق كليل، واللازم للحق ذليل). عبارة مفتاح، وأهميتها أنها قيلت في باكورة تأسيس الإمبراطوريات والتوسعات الكبري، ولم يكن مضي علي وفاة النبي سوي أربع وعشرين سنة فحسب، وكانت صورته مازالت محفورة في صدور وقلوب وعقول كثير من الذين أسلموا علي يديه وتعلموا منه، وهاجروا معه وعاشوا دعوته إلي الله . وبالرغم من هذا اشتعلت الفتنة وسفكت الدماء ..فالسياسة والحكم والسلطة تفتت الورع، وتغور الصدور، وتزين الدنيا باسم الحكم لله كذبا، خاصة أن بني أمية كانوا يتربصون ب«علي بن أبي طالب»، ويتحينون الفرصة للانقضاض علي الحكم، وبني أمية منذ نزول الرسالة السماوية علي محمد بن عبد الله صلي الله عليه وسلم، وبزوغ شمس الإسلام وعلو مكانته، وهم يحاولون استرداد الأرض التي فقدوها، كانوا في زمن الجاهلية سنامة القوم لهم العزة والثروة والسلطة السياسية، فإذا بالدِّين الجديد يجمع الناس ويسلم مقاليدهم إلي بني هاشم الذي منهم نبي الإسلام. وحين دخل أبو سفيان بن حرب بن أمية الإسلام مضطرا عند فتح مكة، وهو لا يألو جهده في التفتيش عن الدروب والمسالك والطرائق التي تعيد عشيرته إلي الحكم، فاستغلوا عثمان بن عفان وطيبته ورفقه بأهله وحنوه عليهم، فاقتربوا منه في وقت كانت الفتن والمكائد تطل برأسها وتزحف من جحورها متسللة بعد مقتل عمر بن الخطاب، ف»ولاهم» عثمان الأمصار والمدائن، ولأنهم أهل دنيا قبل أن يكونوا أهل دين، ولعوا بالسلطة والثروة وتنعموا بهما علي حساب الناس.. ثم قادوا الفتنة ، تحت شعار براق «التمسك بشرع الله». وهل كان في ذلك العصر من هو أكثر رغبا وتمسكا بشرع الله من علي بن ابي طالب؟ لكنه الغرض اللعين. وهذا الغرض صنع للإمام خمس مشكلات عويصة: 1- القصاص من قتلة عثمان بن عفان وكان قتلته كثير العدد، بدرجة يصعب إن لم يكن مستحيلا تعليق دمه في رقبة شخص أو رقاب أشخاص بعينهم. 2- شدة مؤامرات بني أمية عليه بعد أن عزل ولاتهم الذين ولاهم عثمان، وكانوا قد ركبوا علي الناس وأصابوا ثروات ضخمة وتنعموا فيها. 3- غضب الصحابيين الجليلين طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام بعد أن رفض طلبهما الإمامة علي البصرة والكوفة، متبعا تعاليم الرسول بعدم الاستجابة لمن يطلب الولاية ويسعي إليها. 4- تمرد عدد كبير من أصحاب السوابق والفضائل من المهاجرين والأنصار علي مبدأ المساواة الذي أقره ، بعد أن شاعت الاستثناءات والامتيازات لهم علي حساب الآخرين. 5- ثورة الأغنياء عليه، رافضين فرضه علي أموالهم حقا للفقراء استقطعه منهم بالقوة. فكيف لا يكون ذلك الزمن زمن فتنة وحروب أهليه؟ وعلي ابن ابي طالب لم يكن يوما من مريدي الخلافة الباحثين عنها، وحين اجتمع المسلمون في سقيفة بن ساعدة ليروا من يخلف رسول الله بعد مماته، كانت زوجته فاطمة بنت النبي، تحثه علي أن يطلب الخلافة لنفسه، وكانت تراه الأحق بها، نسبة إلي دعاء الرسول في خلال العودة من حجة الوداع عند مروره بغدير خم : اللهم وال من ولاه وعاد من عداه»، وكثير من المسلمين وعلي الاخص الشيعة صوروا هذا الدعاء كما لو كان أمرا بالخلافة، لكن عليا كان متعففا مُقدرا قامات رجال التفوا حول الرسول وقت الشدة وآمنوا به فور علمهم بدعوته، كالصديق أبي بكر، الذي أسرع عمر بن الخطاب إلي مبايعته وأدا لفتنة كانت تشتعل في السقيفة وتنذر بقتال، فمضي «عليُ» علي درب عمر، وبايع الصديق وتحمل غضب زوجته منه وخصامها له فترة من الزمن، ومع ذلك قال المتشيعون له إنه بايع أبي بكر مضطرا، وهو قول يجافي الحقيقة، فمثل علي بن ابي طالب لا يُضطر إلي النفاق حتي لو من باب التقية، و«علي» تربي في بيت النبي وشرب من مكارم الأخلاق أصفاها. وعلي ابن ابي طالب هو أول من لقب ب«المهدي»، وورد في «أسد الغابة» أنهم أطلقوا عليه (هاديا مهديا) ، ومن هنا ولدت فكرة المهدي المنتظر عند الشيعة. وابنه مُحمد بن الحنفية هو أول مهدي منتظر في التاريخ، وأنجبه من امرأة تزوجها بعد موت فاطمة، ونسب إليها تمييزا له عن أخويه الحسن والحسين، وكان مُحمد مثل أبيه شديد البأس والقوة، صرع ذات مرة مصارعا روميا تحداه بضربة واحدة، وبعد مقتل الحسين بسنوات اختفي في ستر الليل كأنه تلاشي من الوجود، وقيل إنه قتل، وظهر له قبر فجأة في دمشق بعد مئات السنين من اختفائه الغامض. ومازالت الفتنة مستعرة ومازالت الدماء مسالة، خاصة بعد أن تسللت إليها أيد أجنبية تسيرها من خلف ساتر. لمزيد من مقالات نبيل عمر