نبض الشارع هو ترمومتر نجاح أى قائد سياسى وأى حكومة، والوقوف على حقيقته ضرورة لابد أن يعتنى بها أى نظام سياسي؛ فمهما يصنع القائمون على الحكم من إنجازات، ووضعوا إستراتيجيات واتخذوا من قرارات، لا قيمة لها دون أن تنال رضاء المواطن العادي، ولن يحدث ذلك إلا حين يشعر هذا المواطن بمردود كل ذلك على مستوى معيشته. ولقد كان الرئيس جمال عبد الناصر، شديد الإدراك لأهمية ذلك، وحريص للغاية على التواصل المباشر مع المواطن العادي، ليس فقط من خلال القاء خطاباته وسط الحشود، بل أيضا من خلال التواصل المباشر من خلال جولات ميدانية حرة دون حراسة أو بروباجندا ..كانت تعليماته الصريحة والمشددة تقضى بعدم مصاحبة أى حراسة له فى هذه الجولات، وعدم إبلاغ وزارة الداخلية بتحركاته الخاصة هذه، التى كانت تتم أيضا بركوبه سيارة خاصة صغيرة يقودها بنفسه فى كل الأحيان، وكانت فى أغلب الجولات الميدانية هذه تتم فى سيارة نصر 1100. وكان يقول إن أى هموم يمكن حلها فى مجلس الوزراء أو فى مجلس الأمة أو من خلال العلاقات الدولية، ولكن هموم المواطن العادى ومشاكله لن تحل من خلال معايشة واقعه، وهذا ما كان يدفعه للنزول إلى الشارع بنفسه فى سيارة عادية خاصة من النوع الصغير، والتى يصعب التعرف عليه داخلها، وكان يختار مناسبات معينة للقيام بمثل هذه الجولات؛ كالأعياد الدينية أو شم النسيم أو خلال سهرات شهر رمضان أو مع بدء العام الدراسى وهكذا، وذلك ليجوب المناطق الشعبية دون برنامج مسبق ليتابع بعينيه وبنفسه تصرفات وسلوكيات الرجال والشباب والأطفال والنساء وملاحظة ملابسهم ونوعياتها وألوانها وتعبيرات الوجوه وألعاب الأطفال، ويقارن بين المناسبات وبعضها، وماذا كان عليه الحال فى العام الماضى، وكذا يرصد موقف الشرطة والجهات الإدارية من الجماهير وبصفة خاصة من الباعة الجائلين.. كان من بين ملاحظاته على سبيل المثال قوله: «السنة دى البنات لابسين فساتين ذات ألوان زاهية بعكس السنة اللى فاتت كان لونها غامق فى الغالب»، وكانت هذه الملاحظة تندرج تحت بند قياس الحالة المعنوية للشعب. مراجيح الأطفال تحتاج لرقابة أكثر حتى لا تقع حوادث. يجب تشجيع زيادة ألعاب الأطفال وخاصة الكورة الشراب فى الأماكن المفتوحة والساحات الشعبية ومراكز الشباب، وعلى التنظيم السياسى أن يرتب لها مسابقات وينظم هذه الرياضات بين الشباب. الساحات الشعبية فى حاجة إلى تنظيم ودعم وكذا وكذا. وفى كثير من الأحيان كان عبد الناصر يميل إلى استقاء معلوماته من مصادرها الأصلية؛ ففى أحد الأمسيات وعلى الخط الساخن اتصل بى وكلفنى بجمع عينات من أرغفة العيش التى يتم إنتاجها من المخابز التابعة للدولة، وأن يتم هذا التجميع من مناطق مختلفة من مدينة القاهرة، وقد قمت فعلا وبواسطة عناصر من التنظيم الطليعى بتجميع العينات المطلوبة من مصر الجديدة والوايلى والزيتون والمطرية وشبرا وروض الفرج والدرب الأحمر وحلوان، وفى اليوم التالى كان موعد الاجتماع الدورى لمجلس الوزراء، وقد افتتح عبد الناصر الجلسة بقوله : « أنا عندى صورة واضحة تماما عن حياة الموظف العادى لا لبس فيها ولا نقاش، الناس تعبانة فى بند اللبس، وبند الأكل» ثم طلب الشنطة التى كانت تحوى عينات العيش، ووضعت على مائدة الاجتماعات أمام الوزراء، ثم التفت عبد الناصر إلى وزير التموين كمال رمزى إستينو وسأله مستنكرا : «تقدر تأكل الرغيف ده يا دكتور كمال» ؟!. فرد الوزير: لا يا ريس فقال له الرئيس: «ما هوا ده اللى بتطلّعه مخابزك . . وإذا كنت لا تقبل أن تأكله، وأنا لا أقبل بالتالى فكيف بالله عليك تقبل إن الناس تأكل . البنى آدم العادى بيشترى كام رغيف فى اليوم؟ على الأقل عشرة أرغفة فى المتوسط إن لم يزد. هل هذا رغيف عيش يؤكل؟ -يا دكتور كمال. عندك 48 ساعة لتصحيح هذه الأوضاع، وإلا سأضطر لاتخاذ قرارات بنفسى لتصحيح الأمر. وذات مرة، حدث أن قل المعروض من الحلاوة الطحينية فأثار عبد الناصر الموضوع فى إحدى جلسات مجلس الوزراء قائلا للوزراء المختصين: « يا إخواننا الراجل الفقير حا ياكل إيه ؟ رغيف العيش وحتة الحلاوة وحتة الجبنة. مش كدة ولاّ إيه؟ طيب إذا عجز الحكم عن توفير تقديم الجبنة والحلاوة الطحينية للناس فعلينا أن نروّح ونتخلى وييجى غيرنا يحكم!» . وفى ضوء هذا التقرير يتخذ القرارات الفورية لتدبير الموارد اللازمة من عملات محلية أو عملات صعبة لتغطية أى أوجه نقص فى هذه السلع والمواد، وكانت القاعدة هى الاحتفاظ برصيد من القمح ( رغيف العيش ) يكفى لثلاثة أشهر على الأقل، وكان يوجه تأشيراته للوزراء بناء على هذا التقرير، وكان يتم إبلاغ هذه التأشيرات فى نفس اليوم بالاتصال التليفونى مع الوزير المختص ثم يؤيد هذا الحديث التليفونى بخطاب . وفى بعض الأحيان كان الوزير المختص يتحاور مع الرئيس تليفونيا حول وضع معين، ودائما كانت هذه الاتصالات التليفونية أو الحوار التليفونى بين الرئيس وأى وزير أو العكس يؤيد ما تم الاتفاق عليه فيها بخطاب مكتوب يصدر من سكرتير الرئيس للمعلومات إلى الوزير المختص، ونماذج هذه الخطابات يمتلئ بها أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات فى منشية البكرى. وفى الوقت نفسه كان عبد الناصر يحث المسئولين على الاتصال به أو طلب مقابلته بلا تردد أو خجل، وذلك لبحث ما لديهم من مشاكل أو مسائل مهمة أو عاجلة قبل أن تتعقد الأمور فيما لو تركت المشاكل معلقة أو تنتظر انعقاد الجلسات العادية لمجلس الوزراء. وفوق كل هذا وذاك فقد كان عبد الناصر يضع تحت يده دائما نوتة «لوس ليف» يدون فيها ملاحظاته وأهم توجيهاته وتعليماته للوزراء والمسئولين ولنا كمعاونين؛ ليعود فيتابع السؤال بعد فترة زمنية عن ما تم تنفيذه، وأسباب عدم التنفيذ، وتذليل أى عقبات قد تحول دون إتمام ما اتفق عليه من قرارات وسياسات وتعليمات. وبرغم بعض الظروف التى كانت تخضع لضغوط سياسية معينة من الخارج فإنه لم يحدث أى عجز فى المواد التموينية الرئيسية، وكانت السيطرة كاملة على الأسعار فى السوق المحلية طول الوقت. لمزيد من مقالات سامى شرف