ينتمى علم السياسة إلى فئة العلوم الاجتماعية التى يستحيل فيها إجراء التجارب بالمعنى العلمى أى بمعنى قدرة الباحث على تثبيت جميع متغيرات ظاهرة عدا واحد كى يمكن معرفة تأثيره تحديداً على هذه الظاهرة، وللتغلب على هذا النقص يُقال أحياناً إن التاريخ حقل تجارب لعلم السياسة بمعنى إمكان الاستفادة بدروس الخبرة التاريخية فى فهم الواقع السياسى واستشراف مستقبله، وعلى الرغم من أن هذه الخبرة تكون بالغة الإفادة بالفعل فإن دقة دلالاتها بالنسبة للحاضر تكون مقيدة بطبيعة الحال بسبب تغير الظروف واختلاف الأشخاص الذين يقومون بأدوار رئيسية فى العمليات السياسية، غير أنه فى أحيان أخرى يتخلق أمامنا موقف ويتطور بحيث تُفضى الملاحظة الوثيقة لهذا التطور إلى خلاصات مهمة ودقيقة بشأن الظاهرة التى يكتنفها هذا الموقف، ويمكن القول إن ما يجرى الآن على الساحة الدولية سوف يكون شديد الدلالة بالنسبة لبنية النظام الدولى وبالذات من منظور طبيعة الوظيفة القيادية فيه. أذكر أننى ظللت طيلة خمسة عشرعاماً منذ التحقت بسلك التدريس الجامعى فى مطلع سبعينيات القرن الماضى أدرس لطلابى النظام الدولى من حيث بنيته وتفاعلاته على نحو ثابت لا يتغير اللهم إلا بإضافة أحداث جديدة هنا وهناك تؤكد المعادلة الراسخة للنظام والقائمة على نموذج القطبية الثنائية الذى تنفرد فيه الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى بالوظيفة القيادية فى ظل ما عُرِف بتوازن الردع النووى الذى جعل الحرب المباشرة بينهما مستحيلة وجعل إدارة الصراع فى علاقتهما من خلال الحروب بالوكالة أو كسب الأنصار بشتى أدوات السياسة الخارجية مع استحالة تعدى أى من القطبين على المشمولين بحماية القطب الآخر، ثم ظهر جورباتشوف على قمة السلطة السوفيتية فى منتصف الثمانينيات فقلب الدنيا رأساً على عقب بسياستيه الداخلية والخارجية وهى التى تهمنا الآن، وقد أتى فى هذا الصدد بمبادئ مثلت خروجاً صريحاً على الميراث السوفيتى فى الشئون الدولية، ففى مقابل التكييف الصراعى للعلاقات الدولية بين المعسكرين الرأسمالى والاشتراكى وحتمية انتصار الاشتراكية أتى جورباتشوف بمبدأ «عالم واحد أو لا عالم» بمعنى أنه إما أن نعيش سوياً أو نفنى معاً، إن بسبب حرب نووية بطريق الخطأ أو كوارث بيئية أو طبيعية أو أمراض فتاكة وهكذا، وفى مقابل سباق التسلح الهائل طرح مبدأ «توازن المصالح لا توازن القوي» بمعنى أنه خير لنا أن نصل إلى تفاهمات يربح الجميع منها من مواصلة التسابق نحو أسلحة الدمار الشامل التى تستنزف الموارد وتزيد الخطر على بقائنا، ومن هنا راح يبادر بخطوات جريئة تضمنت تنازلات غير مألوفة أدت إلى إنجازات حقيقية فى مجال تسوية الصراعات الدولية والحد من الأسلحة الاستراتيجية، لكن مشكلة جورباتشوف أن سعيه لتحديث النظام السوفيتى بخطوات ليبرالية متواضعة أفضى مع المخططات الخارجية إلى تفكك الاتحاد السوفيتى فى 1991 وانفراد الولاياتالمتحدة بقيادة النظام الدولي. وقد دار جدل طويل آنذاك عما إذا كانت هذه «الأحادية القطبية» سوف تبقى طويلاً أم أنها مجرد مرحلة انتقالية عابرة فى بنية النظام الدولي، وقد استشهد أنصار الأحادية بملابسات الغزو الأمريكى للعراق فقد وقف العالم كله تقريباً عدا بريطانيا كالعادة وعدد من القوى الثانوية والصغيرة ضد الغزو ورفض مجلس الأمن إعطاء الولاياتالمتحدة تفويضاً باستخدام القوة، غير أن الإدارة الأمريكية تحدت الجميع وغزت العراق، وسرعان ما بدأت دروس الخبرة التاريخية عن فكرة «حدود القوة» التى وقع قادة أقوياء كنابليون وهتلر ضحايا لها، وتذكر المحللون أفكار بول كيندى فى كتابه الشهير عن صعود الإمبراطوريات العالمية وسقوطها فتعثر الغزو الأمريكى فى العراق أمام مقاومة عراقية ضارية أجبرت الإدارة الأمريكية لاحقاً على الانسحاب بعد أن خلفت وراءها نفوذاً إيرانياً متنامياً فيه، وتواكب مع هذه التطورات نجاح روسيا بوتين فى استعادة تماسكها وصعودها مجدداً على المسرح الدولى بالإضافة إلى استمرار قطار الصين السريع فى التقدم دون توقف نحو قمة الاقتصاد العالمي، وبدا على سبيل المثال فى الصراع السورى وكأن روسيا هى اللاعب الأول الذى وإن لم يكن الوحيد إلا أنه على الأقل يلعب دور المايسترو ويجمع الأضداد من حوله من إيران لإسرائيل مروراً بتركيا ويمطر الجميع بمبادراته فى كل اتجاه. ثم ظهر ترامب منذ قرابة عام ونصف العام رافعاً شعار إعادة العظمة الأمريكية ومنغمساً فى خلافات وصدامات وصراعات مع الجميع تقريباً، فاتهم أعضاء حلف الأطلنطى بأنهم لا يدفعون ما يكفى لحمايتهم وهو اتهام طال دولاً عربية استكثر عليها ثرواتها واستنزفها مقابل الحماية التى يرى ألا وجود لهذه الدول بدونها، وتخلص من اتفاقيات للتجارة الحرة مع حلفاء بدعوى أنها لا تحقق المصلحة الأمريكية، وارتد عن العولمة وانسحب من اتفاقية المناخ، وسب الدول الإفريقية، وتحدى الشرعية الدولية ومئات الملايين من المسلمين والمسيحيين فى قضية القدس، وأعلن حرباً تجارية طالت الصين وغيرها، وانسحب أخيراً من الاتفاق النووى مع إيران وهو يهدد بفرض عقوبات على الشركات التى لا تلتزم بالعقوبات التى يفرضها على إيران بما فى ذلك شركات أوروبية تنتمى لدول يُفترض أنها حليفة، وهكذا فإن ترامب يتحدى العالم كله تقريباً، ولو أنه أفلت بما يفعل لكان معنى هذا أنه استعاد للولايات المتحدة وضع القائد المنفرد بالقمة. فلن يكون لهذا من معنى سوى أن العالم لا يعرف سوى سيد واحد، وبالتأكيد فإن هناك «سادة آخرين» لكنهم أقل مرتبة يتركون حلفاءهم وشركاءهم يتلقون الضربات دون أن يمدوا لهم يداً كما يحدث فى سوريا مثلاً. يستبعد التحليل الموضوعى لموازين القوى الدولية أن يحدث هذا السيناريو لكن «كرامات» القوى الدولية الأخرى لم تظهر بعد!. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد يوسف أحمد