فى كتابه الشهير (الديمقراطية فى أمريكا) الذى نشر فى سنة 1835، أى منذ أقل قليلا من قرنين، كتب الكاتب الفرنسى أليكس دى توكفيل أنه منذ القرن الحادى عشر، مرت الدول (وليست فقط فرنسا) بموجات من الديمقراطية، حيث تصعد شرائح من السكان كانت فى أسفل السلم الاجتماعي، عدة درجات إلى أعلي، فتبدأ فى التمتع بطيبات الحياة التى لم تكن تتمتع بها، وتتكرر هذه الظاهرة كل نحو مائتى عام، ومن ثم يصبح المجتمع أكثر ديمقراطية من ذى قبل. قد يكون فى هذا القول بعض التبسيط ولكنه ينطوى أيضا على بعض الحقيقة. ومن الممكن تقديم تفسير لهذه الظاهرة بما تحرزه المجتمعات من تقدم تكنولوجي. فمن طبيعة التقدم التكنولوجى إتاحة بعض متع الحياة إلى شرائح أوسع من المجتمع، وينطوى هذا على تحسن المركز الاجتماعى لهذه الشرائح مما قد نصفه باتساع الديمقراطية. لقد لاحظنا هذا فى تطور المجتمع الأوروبى من النظام الاقطاعى إلى بدايات النظام الرأسمالي، ثم مرة أخري، أو عدة مرات، منذ نهايات القرن الثامن عشر حتى العصر الحالي، حيث تقطف ثمار التقدم التكنولوجى شرائح جديدة من المجتمع كانت محرومة منها، وتسعى هذه الشرائح، وتنجح بالفعل، بسبب صمودها الاقتصادي، فى تأكيد وجودها السياسى واشتراكها فى إدارة المجتمع. من المؤكد أن هذا المد الديمقراطى قد يواجه نكسات، فتستولى على السلطة فئات تمارس دكتاتورية ساحقة، كما حدث فى صعود النازية فى ألمانيا والفاشية فى إيطاليا، على الرغم مما أنجزته هذه المجتمعات من تقدم تكنولوجي، بل قد تستخدم هذه الفئات التقدم التكنولوجى لإحكام سيطرتها وترسيخ دكتاتوريتها. ولكن هذا لا ينفى أن الأثر طويل المدى للتقدم التكنولوجى هو تقوية الفرد العادى وزيادة قدرته على المساهمة فى الحياة السياسية. كذلك فإن للتقدم التكنولوجي، فيما يبدو أثرا سلبيا على حرية المواطنين يتمثل فيما يسمح به ويتجه بالفعل، من زيادة قدرة الشركات التجارية على غسيل المخ وتوجيه الناس إلى ما يحقق مصالحها حتى ولو لم يكن فى ذلك تحقيق مصالح حقيقية للناس، فتوجه المستهلكين إلى شراء سلع وخدمات قد لا يحتاجون اليها، ومن ثم يفقدون جزءا من حريتهم دون أن يشعروا بفقده. وفى هذه الحالة يكون التقدم التكنولوجى قد استخدم لمصلحة فئة صغيرة من المنتجين ضد مصلحة الأغلبية، وتصبح النتيجة مشابهة لما فعله التقدم التكنولوجى فى الحياة السياسية، حينما يصعد الدكتاتور إلى قمة الحكم ويستخدم وسائل الاعلام لتكريس سلطته وتثبيت دعائم حكمه. أى الاتجاهين يا ترى له الغلبة فى حياتنا المعاصرة؟... هل يزيد التقدم التكنولوجى مما نتمتع به من حرية أم يزيد من قدرة حكامنا على التحكم فى مصائرنا وسلوكنا؟. لدينا عدة تجارب تاريخية فى هذا الصدد. لدينا التجربة الأوروبية التى يبدو أن التقدم التكنولوجى استخدم فيها، فى معظم الأحوال، لزيادة حرية المواطنين، ولدينا التجربة السوفيتية التى انتهت فى 1990، حيث استخدم التقدم التكنولوجى لفرض مزيد من القهر. ولكن لدينا أيضا التجربة الأمريكية التى رفعت شعارات الحرية السياسية ولكن خضع فيها المستهلك لنوع من القهر الذى مارسته الشركات التجارية لترويض المستهلكين. وفى أثناء ذلك مرت الدول التى سميت تارة بالمتخلفة وتارة بالنامية، بتجارب جمعت فيها أحيانا بين القهر السياسى وقهر المستهلكين، وتفاوتت درجة هذا القهر وذاك بحسب درجة النمو الاقتصادى فى كل من هذه الدول. ما الذى يمكن أن نتنبأ به لمستقبل الديمقراطية؟ لا يبدو أن هناك نهاية لما يمكن أن يحققه التقدم التكنولوجى من آثار فى حياة الناس. ولابد أن يخلق هذا التقدم فرصا جديدة لتمتع الناس بطيبات الحياة، ولكنه لابد أيضا أن يتيح فرصا جديدة أمام الحكام لممارسة الدكتاتورية، وأمام الشركات التجارية للانتقاص من حريات الناس. قد يعى الناس جيدا قسوة الحكم الدكتاتورى ويحاولون بنجاح أحيانا، صده ومقاومته، ولكن قدرة الناس على مقاومة ما تمارسه الشركات التجارية من قهر قد تكون ضئيلة. ذلك أن القهر الذى يأتى من جانب الشركات التجارية هو من قبيل القهر «الناعم» الذى يعتمد جزء كبير من تأثيره على الخضوع الإرادى من جانب المستهلكين. لابد أن يذكرنا هذا القهر بالكتابين الشهرين لجورج أورويل وألدوس هكسلي. تكلم الأول فى عقب الحرب العالمية الثانية عن خطر القهر الذى تمارسه السلطة السياسية، وتكلم الثانى (فى كتاب عالم جديد رائع) قبل أورويل بخمسة عشر عاما، أى فى أوائل الثلاثينيات، عن القهر الذى يمارسه منتجو السلع ويخضع له المستهلكون بإرادتهم. قد لا يمس هذا النوع الأخير من القهر نظام الديمقراطية فى الحكم، إذ أنه لا يتعلق بالسياسة بل بالحياة اليومية، ولكن أثره فى الانتقاص من حرية الناس ليس أقل وضوحا، بل قد يكون هو الأشد خطرا. فى نهاية رواية أورويل (1984) جملة شديدة القسوة، إذ تشير إلى أن السلطة السياسية لم تنجح فقط فى التفرقة بين البطل وحبيبته جوليا، بل نجحت أيضا فى أن تنتزع الحب من قلبه، فإذا به لا يوجه إليها التحية، بل ولا يكاد يلتفت إليها إذا تصادف وقابلها فى الطريق. لمزيد من مقالات ◀ د. جلال أمين