معظم الكتب يطويها النسيان بعد فترة طويلة أو قصيرة، وقليل جدا من الكتب ما يظل عالقا بالأذهان، برغم مرور الزمن، تطبع ثم يعاد طبعها، وتظل نسخ منها على رفوف المكتبات لأن أصحاب المكتبات واثقون من أن هناك من سيأتى طلبها، ولا تتوقف الاشارة إليها فى الكتب والمجلات والصحف، دون حاجة إلى التعريف بها، إذ يفترض أن القراء يعرفونها ولديهم فكرة عن مضمونها. من هذا النوع الأخير من الكتب بلاشك رواية 1984 للكاتب الانجليزى جورج أورويل التى مر على صدور أول طبعة منها ثلثا قرن - 65 عاما - ولاتزال يعاد طباعتها المرة بعد المرة، وبمختلف لغات العالم. من المؤكد أن السبب لا يتعلق بالقيمة الفنية للرواية إذ ليس من الصعب انتقادها من هذه الناحية، ومن المعروف أن الشاعر والناقد الانجليزى الشهير ت.س.اليوت (T.S.Eliot)عندما طلب أحد الناشرين رأيه فى الرواية قبل نشرها، نصحه برفضها بل ان أورويل نفسه كتب فى أحد خطاباته بعد انتهائه من كتابتها أنها فكرة جيدة لم أحسن تنفيذها، كان أورويل مريضا وقت كتابتها بالمرض الذى أودى بحياته بمجرد الانتهاء منها وعمره أقل من 47 عاما، لكنه كان مصمما على اتمام الرواية بسبب سيطرة فكرتها على ذهنه سيطرة تامة، وشعوره بان لديه شيئا مهما لابد أن يقوله، فما هو هذا الشيء المهم؟ لقد فهم، القراء الرواية على أكثر من وجه. قرأها كثيرون على أنها فقد للنظام السوفيتى أو الاشتراكى أو الشمولى أو البوليسى كما كان يراه أورويل وقت كتابته للرواية 1948 - 1949، وهو الوقت الذى بدأت فيه الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالى والشيوعي. لكن كثيرين من قراء الرواية- وأنا فهمى - يرون فيها فى الاساس تصويرا ورفضا لما يتعرض له الفرد من قهر فى العصر التكنولوجى الحديث، إن فى الرواية ما يكفى وكذلك فى كتابات أورويل الاخرى للتدليل على أن كراهيته لم تكن للنظام السوفيتى حبا فى النظام الأمريكى أو الاشتراكية حبا فى الرأسمالية - لقد ظل أورويل متعاطفا مع الاشتراكية طوال حياته، بل كانت كراهيته منصبه على نظام - أيا كان لونه الايديولوجى - لا يجد الفرد مهربا من استبعاد التكنولوجيا الحديثة هذه التكنولوجيا الحديثة تتمثل ليس فقط فيما لدى أصحاب السلطة من اسلحة وسجون ومعتقلات بل وما لديها من وسائل التجسس والتنصت وغسيل المخ، وكلها وسائل كانت ولا تزال متاحة للدولة الاشتراكية والدولة الرأسمالية على السواء. أراد أورويل بالرواية أن يطلق تحذيرا لما يمكن أن يأتى به المستقبل - بل ما كان واثقا من أن المستقبل سيأتى به - ما لم ينتبه الناس إلى حقيقة من الأمر قبل فوات الأوان. لهذا اختار أورويل كعنوان للرواية، الرقم الدال على سنة تبعد بنحو ثلث قرن عن الوقت الذى كان يكتب فيه، لكن هذا الرقم لا قيمة له فى ذاته فأورويل لم يتصد به أكثر من المستقبل. من السهل إذن أن نتبين لماذا قاومت هذه الرواية أثر مرور الزمن مع هذا النحو. فمصدر الخوف الذى كان يسيطر على أورويل حقيقي، واتضح أن له ما يبرره، أكثر فأكثر كلما مر الزمن. وها نحن بعد مرور 65 عاما على صدور الرواية لأول مرة، نجد أمثلة فى مختلف بلاد العالم أيا كانت الايديولوجية التى تتبناها، على زيادة تضاؤل الفرد تجاه اصحاب السلطة، نتيجة لزيادة ما بين أصحاب السلطة من وسائل التكنولوجيا الحديثة، وعلى زيادة حجم الاكاذيب التى تقدم للإنسان المعاصر على أنها حقيقة، وتضاؤل قدرته على المقاومة، يوما بعد يوم، ليس فقط قدرته على تحدى أوامر السلطة ومعارضتها، بل على التمييز بين الكذب والصدق فيما يقال له عن طريق وسائل الاعلام، فبطل الرواية يكتب فى مذكراته «إنى أحافظ على التراث الانسانى وأحميه ليس بالضرورة عن طريق إسماع صوتي، بل فقط بنجاحى فى أن أحتفظ بقواى العقلية» ويكتب مرة أخرى «إذا ضاعت الذاكرة، والسجلات قد تم تزيينها فما الذى يمكن أن يدحض ادعاء الحزب بأنه قد رفع مستوى المعيشة؟» كل هذا صحيح فى رأيي، ولاشك فيه ولكننا يجب أن ننتبه أيضا إلى أن العالم قد تغير بشدة خلال ال 65 عاما التى مرت منذ كتب أو رويل هذا الكلام، لابد أن نعترف بأن مايتعرض له الفرد اليوم من غسيل المخ، من جانب الممسكين بالسلطة، أشد مما كان فى أيام أورويل، وأن ما يتمتع به الفرد من حرية سياسية أقل فى الحقيقة مما كان حينئذ، رغم شيوع الادعاء بغير ذلك. ولكن من المهم أن نعترف ايضا بأن «الممسكين بالسلطة» ليسوا الآن نفس من كانوا يمسكون بالسلطة أيام أورويل، ووسائل غسيل المخ لم تعد هى نفسها الوسائل القديمة، كما أنها أصبحت تصل إلى أعماق فى المخ والنفس لم تكن تصل إليها من قبل، بل إن بعض الوسائل التى كان يعتمد عليها الفرد فى مقاومته لغسيل المخ لم تعد متاحة له الآن أو ضعفت بشدة، كل هذا يجعل من المفيد (بل من الضروري) «تجديد جورج أورويل» أى أن نتبع ماجد من تطورات على مصر والسلطة التى تمارس القهر، والوسائل الجديدة لهذا القهر، ونوع الرسائل التى ترسل الآن للناس من قبيل «غسيل المخ» أى ماطرأ ليس فقط على أساليب الكذب، بل أيضا على مضمون الكلام الكاذب، وماضاع ومابقى من وسائل لدى الفرد لمقاومة الأنواع المختلفة من القهر. دعنا نتذكر أنه عندما كان جورج أورويل يكتب رواية (1984) كان العصر لايزال «عصر القوميات»، ولم يكن قد حل بعد «عصر العولمة»، بالدرجة والشكل اللذين نعرفهما اليوم. كان المصدر الأساسى للقهر فى عصر القوميات، هو «الدولة القومية»، ووسائل القهر شبكات التجسس والمخابرات والسجون وأدوات التعذيب، والقاهر الأعظم هو «الأخ الأكبر»، الذى لايعكف وسائل الإعلام عن ذكر اسمه والتسبيح بحمده، والحروب كانت تشن من دولة أو مجموعة من الدول ضد دولة، أو مجموعة أخري، وتجرى تعبئة الناس للحرب بشعارات الوطنية والولاء للوطن. خلال الستين عاما الماضية حدثت أشياء كثيرة أدت إلى تراجع سلطة الدولة لصالح الشركات العملاقة، وتضاءلت أهمية الحدود الفاصلة بين الدول، بعد أن أصبح من الممكن لهذه الشركات ولوسائل الاعلام والاتصالات القفز فوقها، اقترنت العولمة ايضا بزيادة انتقال العمالة من بلد لآخر، مما قوى الشعور بالولاء للشركة على حساب الولاء للدولة، وأدى هذا وذاك إلى اختفاء نموذج الحاكم القوى المهمين، وحل محله نموذج الرئيس الذى يدير مهمة العلاقات العامة، وحل محل الدبلوماسيين الذين يخدمون لدولة ورئيسها، دبلوماسيون يتكلمون باسم الشركات الكبرى ولمصلحتها أدى تطور الأسلحة الحديثة أيضا إلى أن أصبحت الحروب بين دولة وأخرى أو «الحروب العالمية»، بين مجموعة من الدول مجموعة أخري، باهظة التكلفة بل وقد يكون ضررها أكبر من نفعها إذ لا تدرى الدولة الآن ما إذا ،كانت يضربها دولة أخرى تضرب أيضا شركاتها هي، ذات الفروع فى مختلف الدول. أصبح الأجدى الآن شن الحروب الأهلية بين مواطنى الدولة الواحدة، مما يحتم تغيير أسلوب الخطاب المستخدم فى غسيل العقول، من استخدام شعارات القومية والولاء للوطن إلى شعار «مكافحة الإرهاب» مثلا. هذا قليل من كثير يتطلب تجديد جورج أورويل مازال كتاب أورويل مهما، وسيظل كذلك لفترة طويلة مقبلة، ونحن على أى حال مدينون له بشق طريق جديد، ويكفيه تأكيده على شيء واحد على الأقل: أن ظواهر الأمور غير بواطنها، وأن مايقال لنا كثيرا ما يكون عكس الحقيقة بالضبط علينا فقط أن ننتبه إلى أن الحقيقة تتغير من عصر لعصر، وكذلك مايقال لنا. لمزيد من مقالات د. جلال أمين