تحل فى هذه الأيام ذكرى عزيزة على المصريين (بل وعلى العرب عموما) هى ذكرى ميلاد محمد عبد الوهاب، الموسيقى المصرى الفذ والمطرب المحبوب الذى ملأ الدنيا وشغل الناس، بأغانيه وموسيقاه وأفلامه، لأكثر من ثلاثة أرباع قرن، من عشرينيات القرن العشرين إلى أوائل التسعينيات. إنى أذكر كيف انقسمنا، ونحن صبية صغار فى السنوات الأولى من الدراسة الثانوية، بين المتحمسين للملحنين المتمسكين بالتراث الموسيقى العربى (مثل زكريا أحمد) و (المستغربين) من الملحنين الذين تأثروا بشدة بالموسيقى الغربية، بل وسمحوا لأنفسهم أحيانا بالاقتباس منها، وعلى رأسهم محمد عبد الوهاب. ولكن عبد الوهاب كان يميزه عن هذا الفريق الأخير بأنه أثبت فى مطلع حياته الفنية موهبته الفذة، حتى فى أعماله الملتزمة التزاما تاما بقواعد الموسيقى والغناء العربية، ومن ثم لم يكن اقتباسه من الموسيقى الغربية ناتجا عن قلة الحيلة أو نضوب الموهبة، وأنه كان قادرا على تطويع ما يقتبسه من موسيقى الغرب ليصبح جزءا مقبولا فى وسط النغم العربي. هكذا بدأ عبد الوهاب، إذا أدخل فى مقطوعتة الموسيقية أو الغنائية نغمة من قطعة موسيقى غربية، وكأنه لا يفعل هذا إلا بعد أن يهضم الموسيقى المقتبسة هضما، ومن ثم تقبلها الأذن العربية برضا تام ودون أى شعور وبأن شيئا يقحم إقحاما مما يمكن أن تنفر منه النفس. هكذا دخلت ألحان عبد الوهاب (أو معظمها على الأقل) الأذن والقلب العربيين دون أى عاتق. فكنا نبتهج لسماعنا عن ظهور أغنية جديدة له وكأنه خبر سياسى مهم وسار، ونظل ننتظره بشغف ثم نردده بعد سماعه حتى نحفظه عن ظهر قلب. كان خبرا مهما جدا إذن، ذلك الذى انتشر فى منتصف الستينيات بأنه عبد الوهاب وأم كلثوم سيتعاونان فى عمل واحد، فيلحن عبد الوهاب أغنية لأم كلثوم، بعد أن استقر فى أذهاننا أن كلا منهما سعيد بالتربع على عرشه مستقلا عن الآخر. سمعنا وقتها شائعة (وأظن أنها صحيحة)، بأن السلطة السياسية فى ذلك الوقت (التى كانت تحكم البلاد بيد من حديد) هى التى قررت وضغطت على الفنانين العملاقين لكى يشتركا فى عمل واحد، ولم يكن بقدرتهما أن يرفضا مثل هذا الطلب. انتظرنا بشغف شديد أن نسمع بنتيجة هذا التعاون، وكانت النتيجة هى أغنية «أنت عمري» الزائعة الصيت والتى لم يكن المذياع ينتهى من إذاعتها فى إحدى المحطات حتى تبدأ إذاعتها من جديد فى محطة أخري، كانت نتيجة هذا التعاون موفقة جدا من الناحية الفنية (ولابد إنها كانت كذلك أيضا من ناحية العائد المادي)، فتوالى بعد ذلك ظهور أغنية بعد أخرى لأم كلثوم من تلحين عبد الوهاب، واستقبل الناس هذا بترحاب شديد يتفق مع حبهم لكل منهما. من الطريف أن نلاحظ أن كلا من الفنانين الكبيرين لم يستطع أن يتجنب مراهنة السلطة السياسية، بدرجة أو بأخري، إذ كان رضا السلطة ضروريا، فيما يبدو، لاستمرار رضا وسائل الإعلام عنهما. ولكن العكس كان صحيحا أيضا، أى أن مراهنة السلطة للفنانين الكبيرين بدأ ضروريا أيضا للحصول على بعض الرضا من الناس، فعندما نصح الملك فاروق بأن التمتع بالشعبية يتطلب أن ينضم إلى الشعب بصورة أو أخرى فى الحفاوة بأم كلثوم، فوجئ الناس بحضور الملك إحدى حفلاتها ومنحها خلالها نيشان الكمال (الذى سمح بتلقيبها بصاحبة العصمة). ويبدو أن عبد الوهاب شعر أيضا بضرورة التقرب من السلطة فأضاف إلى أغنية «الفن» عبارة فى نهايتها تمجد الملك لرعايته للفنون. كان فى هذا بالطبع أوجه لا يستهان بها من فساد الذوق، ولكن يبدو أن حبنا لعبد الوهاب منعنا من تهديل الأمر، ربما مثلما كان شعور الناس نحو المتنبي، إذ لا أظن أنهم كانوا يبالون كثيرا بما يضفيه المتنبى من صفات غير حقيقية على سيف الدولة الحمدانى أمير حلب. من الطريف أيضا ما كان يشعر به هؤلاء الفنانون العظام من ضرورة التعرض فى بعض أغانيهم لبعض الأمور السياسية الجارية، مما يبدو لنا غريبا جدا الآن. لعبد الوهاب مثلا أغنية تصف الخلافات الحزبية التى كانت على أشدها فى الأربعينيات من القرن الماضي، قبيل ثورة 1952. وكان الناس قد سئموا هذه الخلافات بشدة لأنها كانت تعبيرا عن أهداف شخصية وحب المنصف أكثر مما تعبر عن مطامح وطنية كان، مطلع الأغنية (إلام الخلف بينكم إلام، وهذه الضجة الكبرى علام)، وهو موضوع غريب أن يتغنى به فعن شهيد أو غير شهيد، ولكنى لا أذكر أننا شعرنا بالاستغراب له عند وقوعه (وهو ما قد يحتاج بدوره إلى تفسير). كان العصر الذهبى لمحمد عبد الوهاب هو فترة ما بين الحربين العالميتين، فلما انتهت الحرب العالمية الثانية، بدأ وكأن التطور الاجتماعى فى مصر يتطلب موسيقى أسرع وغناء أكثر جماهيرية من موسيقى وغناء عبد الوهاب زادت أهمية الإيقاع السريع، ولكن قلت أهمية الكلمات المبالغة فى عاصفيتها، واحتفى الناس بالكلمات الأقل خضوعا للحبيب والأكثر جرأة فى مخاطبته. لم تعد كلمات «الذل» و «الحرمان» مطلوبة مثلما كانت من قبل، بل ظهرت أغان من نوع «أبو عيون جريئة»، تفترض أن الحب ممكن دون عذاب» بل وفى ظل اجتماع الحبيبين واستمتاع كل منهما بالآخر. جاء عبد الحليم حافظ ليعبر عن هذا النوع الجديد من الحب، ومن ثم سرعان ما صعد نجم عبد الحليم على حساب نجم عبد الوهاب. ومع ذلك سيظل عبد الوهاب يمثل فترة غالية من تاريخ الطرب والتاريخ الاجتماعى فى مصر. لمزيد من مقالات د. جلال أمين