كان الفشل هو مصير كل محاولاتى للغناء أو للعزف على أى آلة بما فى ذلك الطبلة، وقال لى أبى عندما قطعت قيلولته ذات يوم، إننى يجب ألا أغنى بتاتا، وإذا لم يكن هناك بد فعلى بالبحث عن جراج واسع يصلح لهذا الغرض، ورغم ذلك واصلت المحاولة، بل وأشتريت ذات يوم كتيبا به كلمات أغانى عبد الحليم، لأردد أغانيه مع الراديو وخاصة تلك التى كنت أحفظ كلماتها: الحلوة الحلوة الحلوة برموشها، برموشها السودة الحلوة. فى بداية المراهقة حين بدأت أنشغل بعالم البنات ولعب الكرة وصيد السمك، وقاعات السينما بشارع عماد الدين كوزمو وليدو وبيجال. ظهرالأستاذ حسنى فى حياتى، وفى حياة الكثير من أصدقائى ونتذكره جميعا بقوة. حسنى مدرس الموسيقى فى الروضة الإعدادية بنين، كان حريصا على ارتداء بدلة سكروتة وربطة عنق زاهية، وكان يضع أحيانا برنيطة فخيمة فوق رأسه، كان وجهه محتقنا دائما وشعره لامعا وأنيقا بدرجة مستفزة، وظل متأففا منا ومن الأيام التى دفعته لأن يدرس الموسيقى لأمثالنا. كان منزعجا من كل شىء حتى من أبنه الذى كان طفلا صغيرا، تعودنا أن يقتحم فصلنا ليهمس فى أذن أبيه بكلمات، فيخرج حسنى محفظته ويميل على رأس الولد ونسمع بوضوح فقط عبارة: ابقى قول لها. شرح لنا الأستاذ حسنى أن الموسيقى علم وفن، أما لماذا هى علم: فقد توصل الى هذا البرهان العجيب: لأن لها قواعد ونظريات مثل سائر العلوم، ولماذا هى فن، فإن السبب كما قرره لنا هو أنها من وحى الفنان نفسه، أما أعمق جملة نحتها الرجل فى عقولنا فهى: تتكون الموسيقى من عنصرين هما الصوت والزمن. مازلنا نحتفظ فى ذاكرتنا بعد أن تخطينا الستين, بهذه الكلمات كما هى وبنفس الترتيب، فقد ضربنا بسن المسطرة بقسوة لترديدها كما لوكانت عبارات مقدسة. ولا أريد أن أتوغل فى وصف شراسة حسنى معنا عندما انتقلنا الى النوتة والتدوين ووضع علامات الروند والبلانش والنوار والكروش فى كراسة الموسيقى، كانت المهمة بالغة الصعوبة على عقولنا البسيطة، ولم يرحمنا الرجل، ولكن محبتى البالغة وغير المبررة للغناء والموسيقى.واصلت تقدمها. فتحت لى السينما بعد الراديو ودروس الأستاذ، ممرا خاصا للموسيقى، بدأت أسمعها وهى تلاحق المشاهد، وأنتبه لما تفعله الالحان فى روحى وفى نظرتى للصور، وانا أتابع الأبطال وهم يبتهجون ويبكون او يعانون لوعة الغرام، الموسيقى كانت تسحبنى الى قلب هذا العالم وأصبحت أتذكر بعض المشاهد مصحوبة بالموسيقى أو الغناء، ،كنت أحيانا أسمع الموسيقى فأدرك أن الحب قد أشتعل فى قلب البطلة، أو أن خطرا ما سيداهم البطل فى الطريق، وما كنت اسمعه فى الراديو أصبح مفتوحا على اتساعه أمام العين. ومازلت أتذكر الى الآن وقع أغنية “ياحلوة يابلحة يا مقمعة، شرفتى اخواتك الأربعة “على وجه عمر الشريف فى فيلم بداية ونهاية. مع تقدم العمر اتسعت دائرة الشغف، ولكن نقلة كبيرة لم تكن على البال حدثت بعد عودتى من إيطاليا، عندما أنتقلت الى مرسمى بوسط البلد. كان المرسم صغيرا وكان دبيب المدينة الهادرة يخترقه من كل الجهات، ولكى أحمى نفسى من هذا التداخل المهلك، لجأت الى الموسيقى، ووضعت فى خلفية المرسم جهازا به كميه وافرة من الغناء، وكنت أرفع صوته عاليا، وكأننى أبنى بذلك حاجزا منيعا، أو اخترع عزلة مؤقتة، وكأن ما يقع خلف الموسيقى لا يخصنى، لأنها وقائع تدور هناك ،خلف الحائط ،حائط الموسيقى، وهكذا لساعات طويلة، صاحبنى الغناء كل يوم، و بدأت تتسلل الى روحى مقاطع وكلمات وجمل وسكتات، يبدو أن الصحبة الممتدة لسنوات قد ورطتنى بالكامل فى هذا العالم. كل مكونات حائط الموسيقى كانت فى البداية قريبة الى قلبى، ولكن بعد سنوات، اكتشفت أن صرحين هائلين ببرزان من هذا الحائط، مغنى وملحن عملاق هو عبد الوهاب، ومعجزة مكتملة وهى أم كلثوم. أعتقد أنهما قدما لى معا، أعلى ما يمكن للغناء أن يهبه. كانت أم كلثوم تأخذنى بغنائها الى المطلق، الى استحالة التواصل:.. وانا فى قلبى كلام ما لهوش نهاية. وكأنها تدفع بالمشاعر الى تصفية الوجود ذاته، عاطفة دينية جارفة تنتقل من مجال الالوهية الى مجال العشق والغرام. بالتكرار وعمق الصوت وتبديل هوياته ،كانت تستدعى ما هو قدرى واسطورى. بينما كان عبد الوهاب، ينقلنى بخفة الى حياتى اليومية وعالمى القريب. كان يجهز أرائك لينة ليجالس المعانى، ويسكن العواطف داخل غرف الحياة الممكنة، فتصبح المحبة قريبة ولينة ولعبية..يرغم الصد وندرة الجمال:...ياورد هون عليك. فى فيلم «وتمضى السفينة» لفيلليني، يقول مغنى الفرقة الموسيقية، «تسألوننى كثيرا عن الصوت، وكأننى أنا من يصنع الغناء، وما أنا فى الحقيقة إلا سحابة عابرة، ستارة رقيقة، صندوق رنان يعبر من خلاله الصوت اليكم». الغناء يلفنا إذن ويدور حولنا ولكننا لا نسمعه إلا عندما ينطلق المغنى، فيللينى نفسه كان يتساءل عن مصير الموسيقى، والى أين تذهب عندما يتوقف العازفون، هل تذوب فى فراغ هذا الكون الهائل، أم تظل عالقة بدورها فى الهواء المحيط بنا؟ هذا السؤال المدهش، ربما يلمس المصدر الأعمق لولعنا بالموسيقى، فهى الأقدر بلا جدال على ربطنا بأبعاد غير مرئية فى وجودنا وفى حياتنا. أبعاد لا يطالها الكلام وحده ولا تكشفها الصور. لا أملك معرفة كافية بتاريخ الموسيقى واصناف الغناء، ولكننى أحب الموسيقى هكذا، بدرجة محدودة من المعرفة ومساحة كبيرة من الغفلة، ويبقى أن ما يسحرنى فى الغناء هو تدفق وتواصل صوتنا الانسانى عبر الزمن, وتلك القدرة الفذة على إيجاد صحبة حميمة مع الروح، وعلى توريط البشرعاطفيا فى الحياة، بغض النظر عن حجم الهزائم والأحزان. لمزيد من مقالات عادل السيوى