تعرض اليوم لحياتنا العربية, محليا وكونيا, جملة من المسائل والقضايا التي تمثل تحديات حقيقية وتتطلب مواقف حاسمة. من بين هذه المسائل والقضايا: التعددية الدينية, والعلاقات مع الغرب, ومطالب الواقع الإنساني. في مقدمة هذه المسائل ما يثور من هواجس وتوجسات في شأن الحقائق الاجتماعية والسياسية والإنسانية التي تتعلق بالعلاقات الإسلامية المسيحية في المواطن العربية. إذ لايخفي علي احد ان احداث الحادي عشر من سبتمبر2001, وغزو العراق وحراك التيار السياسي الديني المتشدد, قد ألقت بظلالها علي هذه العلاقات. كما ان حشدا من الظواهر المركبة قد أسقط علي المشهد صورة تدعو الي القلق. ويشتد هذا القلق إذ يبدي بعض المسيحيين العرب أسئلة حول وجودهم في المجتمع, من حيث انه ينظر اليهم كأقلية تقع خارج مفهوم( الأمة) الإسلامية, وأنهم لايتمتعون بجميع الحقوق التي يتمتع بها المواطن, وأخطر من ذلك ان يعتبر البعض ان عقيدتهم المسيحية توجههم الي التعلق بالغرب النصراني لا بالعالم العربي المسلم. وتستخدم بعض القوي والمنظمات والنشطاء السياسيين في الخارج هذه المظاهر وهذه الهواجس لتعميق الاختلاف والتناقض داخل عدد من المجتمعات العربية, بحيث تتوالد مشاعر الخوف من المستقبل, وإغراءات الهجرة ومظاهر النفور والصدام. هذا وضع لايجوز الصمت بإزائه. وعلي كافة مؤسسات المجتمع ومنظماته أن تنهض في وجه جميع الدواعي والأسباب التي تسهم في تغذية هذه الأحوال وتشجع عليها. وفي هذا الشأن علينا ألا ننسي وقائع التاريخ, القديمة والحديثة. فقد كان المسيحيون العرب دوما مكونا أساسيا من مكونات المجتمع الإسلامي والحضارة العربية الإسلامية. وكان دورهم في بناء هذه الحضارة دورا عظيما في الآداب والعلوم والفلسفة وكل مظاهر الحضارة الأخري. وفي عصر النهضة العربية الحديثة كان لهم مكانة بارزة, وربما الأبرز, في وصل العالم العربي بالعالم الحديث وبالحداثة. ولا يجهل احد دورهم في الحركة القومية العربية الحديثة وفي الحركات الوطنية العربية وبخاصة في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن ومصر, أي في الهلال الخصيب ومصر. وتدين لهم الحركة الثقافية والأدبية والعلمية في هذه الأقطار بفضل عظيم. وعلينا ألا ننسي ان المسيحية ديانة سماوية, وأنها بهذا المعني تنتمي الي العائلة الإبراهمية نفسها التي ينتمي إليها الإسلام. لذا اقتضي هذا كله, وغيره, أن يعاد النظر في هذه المسائل وأن تأخذ حقها من الاعتبار والتقدير والمراجعة. ولاشك ان الحوار الديني الإسلامي المسيحي يمكن ان يكون مؤثرا في هذه العملية. وعلي وجوه وعيون الطرفين, الإسلامي والمسيحي, تقع مهمة بذل الجهد في نشر معرفة حقيقية لكل دين لدي اتباع الدين الآخر, بحيث يدرك الجميع ان الأصول الروحية مشتركة, وأن العقائد الأساسية, برغم الاجتهادات والسجالات اللاهوتية والكلامية, واحدة. وفي هذا الصدد يتعين القول بنبرة قوية ان خير طريق لحياة المجتمع المشتركة يكمن في حياة قائمة علي المساواة التامة بين المواطنين, وعلي نمط من الحكم ديمقراطي تمثيلي وعلي قوانين تشتق من الفقه ومن القانون كليهما. كما ان من الضروري ان يكون جليا انه لايجوز الربط بين انتماء المسيحيين العرب الي المسيحية وبين انتماء الغرب اليها بحيث ينظر الي المسيحيين العرب وكأنهم امتداد للغرب ودعاة له, ففي ذلك جور وافتراء ظاهران. وفي المسألة الثانية, مسألة العلائق مع الغرب, لا أحد يجهل خطورة النتائج التي ترتبت علي أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001, وما غلب من قول إننا بإزاء صراع ديني وصراع حضاري, وآثار ذلك علي الحياة المدنية في المجتمعات العربية وعلي العلاقات الدينية الإسلامية المسيحية في هذه المجتمعات. ومن المؤكد ان ربط( الحرب علي الإرهاب) بما يشبه ان يكون مشروعا صليبيا جديدا قد ولد مشاعر بغيضة في هذه المجتمعات. وأيا ما تكن طبيعة هذا الصراع فإن الخطر الأعظم الذي يمكن ان يتولد منه بالنسبة إلينا هو ان تتعمق جذور الخلاف والصدام بيننا وبين الآخرين في الخارج وبيننا وبين انفسنا في الداخل. وهنا ينبغي ان تتلاقي جهود المسلمين والمسيحيين في العالم العربي من اجل دفع المخاطر المترتبة علي هذا الصراع, وذلك بالعودة الي الإعلاء من شأن القيم والمعايير والأخلاق الدينية المشتركة وتحكيمها في تقييم وتوجيه ما يحدث, وبأن يبذل المسيحيون العرب في الداخل وفي الخارج مساعيهم من اجل توضيح رسالة الإسلام في البيئات والمحافل الغربية, وإفهام الغرب ان الدين الإسلامي في ذاته دين رحمة وسلم لا دين كراهية وإرهاب وعنف, وانه لايضمر العداء والشر للغرب, وأن مايحدث ليس الا انعكاسا لواقع مأزوم ولمشكلات مستعصية تتطلب حلولا عادلة. وعلي المسلمين, في الداخل, أن يتعرفوا بشكل افضل علي المسيحية ودلالاتها وقيمها المشتركة مع الإسلام. إن من شأن هذه الجهود ان تحد من المخاطر الداهمة وان تعزز مسيرة العيش المشترك. وفي المسألة الثالثة والأخيرة التي أخصها هنا بالاهتمام, مسألة الواقع الإنساني, أريد ان اشدد علي قضية جوهرية هي ان مستقبل العيش المشترك الإسلامي المسيحي في المجتمعات العربية يطلب التوجه لا الي الحوار اللاهوتي والخوض في قضايا العقيدة واللاهوت حيث ان هذه القضايا تظل من شأن علماء الدين ورجال الدين والفلاسفة وإنما الي القضايا الانسانية الملحة, وإلي المطالب الحياتية التي يجري البشر خلفها وعليها يقيمون حياتهم ومعاشهم ومستقبلهم. وفي رأيي ان في مقدمة هذه القضايا قضايا الفقر والجوع, والتربية والتعليم, وحقوق المرأة, وخفض الوفيات بين الأطفال, وتحسين الأوضاع الصحية ومكافحة الأمراض والأمراض السارية, وحماية البيئة وتعزيز جهود التنمية. وإذا ما اقترنت هذه السياسات الإنسانية بحوار عربي إسلامي مسيحي يخطط لها ويسعي من أجل تحقيقها في الحياة المدنية المشتركة, وإذا ما اقترنت هذه السياسات بإنشاء مراكز علمية وثقافية مشتركة, وبالاحترام والاعتراف المتبادلين, وبثقافة دينية سليمة وتعارف روحي وحياتي لدي اتباع كلتا الديانتين, وذلك في ظل نظام اجتماعي سياسي قائم علي العدالة والمساواة... إذا ما تحقق ذلك أمكن لنا جميعا ان نقيم حياة آمنة طيبة مطمئنة, وأن نتجاوز معا التحديات الكبري التي تعترضنا, ونبدد الهواجس والمخاوف التي تجتاح نفوسنا جميعا. * رئيس منتدي الفكر العربي وراعيه, رئيس منتدي غرب آسيا وشمال افريقيا, عضو في لجنة التمكين القانوني للفقراء, سفير الإيسيسكو للحوار بين الثقافات والحضارات, رئيس شرف منظمة المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلام. المزيد من مقالات الحسن بن طلال