بقيت الابتسامة على وجهه المشرق وكأنها ترحيب بالأمر الإلهى الذى صدر للروح أن تصعد إلى السماء. غادر هشام قنديل استشارى طب الأطفال بوزارة الصحة بالإسكندرية الدنيا مبتسما وترك لنا أحزان الفراق ودموع اللوعة. رحلة الحياة مرت وكأنها لحظة، أذكره حين كان طفلا جميلا متورد الوجنتين، يموج بحيوية تنعكس فى شقاوة محببة، ثم فتى متفوقا فى الدرس واللعب، برع فى ألعاب المضرب كما برع فى دراسة الطب، وتخرج طبيبا شابا طموحا، رزقه الله بزوجة مخلصة أحبها وأحبته وأنجبت له ولدا وبنتا. دارت عجلة الدنيا ودار معها، يقضى نهاره يعالج الأطفال بجد وتفان، ويسكن ليله فى المنزل يرعى أسرته بحب وإخلاص. أصبح طبيبا مشهورا يجد سعادته فى تخفيف آلام الأطفال وإراحة الأمهات، لم تفارقه ابتسامته المحببة رغم إرهاق العمل وعثرات المعيشة ومحن الحياة. كنت أنصحه بالتخفيف من أوقات العيادة فكان يقول كيف أرد طفلا صغيرا يتألم، وكان يردد إن ضحكة الأطفال تزيل التعب، فأدركت أننى أمام رجل يهوى حرفته. كنت أنقل له أحيانا إطراء بعض الأمهات، فكان يقول الشفاء من عند المولى عز وجل، ويستطرد ضاحكا يأتينى الطفل فأكتب له الدواء ويشفى بإذن الله فى أسبوع، وحين لا يأتينى ولا يأخذ الدواء يشفى بإذن الله فى سبعة أيام. مرت السنون وبات الطبيب المعالج يبحث عن العلاج، وصار من يصف الدواء فى حاجة إلى الدواء. كتم آلامه إلى أن صارت فوق الاحتمال، وخاض رحلة العلاج الموجعة بشجاعة وصبر فهو أول من يعرف محاذيرها وأوجاعها. أذكر أن حكى حلما رآه وهو فى شدة المرض، فهو يجلس فى مكان رائع الجمال لم يزره من قبل، سأل زوجته ما هذا المكان الجميل، أين نحن الآن، فردت أنت فى الجنة!! قال لها ولكنى لم أصنع ما يستحق أن أذهب إلى الجنة من أجله. سألنى ما تفسير هذا الحلم، قلت ضاحكا عليك بإحكام الغطاء عند النوم. قدر الله وما شاء فعل، ولبت الروح الطاهرة نداء خالقها. تحيرنا فكيف نبلغ الأمر للأم التى احتضنت ورعت وربت، وحين قلنا لها إنه انتقل إلى مكان أفضل لم تستوعب وظلت تناديه. وتحيرنا فلقد جابهتنا إشكالية الإبلاغ، الكبار يتحيرون ماذا سيكتبون فى الأهرام، والصغار يتعجبون وهل هناك من بات يقرأ الجرائد الورقية. الصغار يصيغون بلاغا فى الفيسبوك والكبار لا يعرفون كيف يصلون إلى المكتوب فى عوالم التواصل الرقمي. لقد تغيرت الدنيا وجسد النقاش الانفصام بين جيلين متتابعين أو ربما متزامنين. وتأكد الانفصام فى كثافة برقيات العزاء الإلكترونية التى وصلت مقارنة بالبرقيات الورقية. جرت أمورنا بسلاسة ويسر، ولكنى تأملت ما يجرى حولنا، فالحفاظ على الحياة أو مغادرة الدنيا أصبحت عملية معقدة الإجراءات فى الدنيا كلها، وتذكرت محاضرة سمعتها أثناء دراستى فى الخارج عن صناعة الجنازات، وكيف أنها حرفة معقدة ومكلفة، عليك أن تحسب حسابها وتدخر لها لو أردت أن يحرق جثمانك على أنغام الموسيقي!! البشر يتاجرون بالأحزان والأفراح ويصنعون أساليب الحياة (والموت) الغريبة طبقا لمعتقداتهم وتقاليدهم وثقافاتهم. جاءت لحظة الوداع، ذهلت من مظاهرة الحب التى رافقته إلى مثواه الأخير، فهو مجرد إنسان أدى واجبه فى إخلاص، فجاء زملاؤه يذكرون دماثة خلقه وحسن تعاونه، وجاء طلابه يذكرون فيض عطائه وغزارة علمه، وجاءت أمهات يذكرن له طيب تعامله ورعايته، بل العجيب أن جاء شباب يذكرونه منذ كانوا أطفالا يعالجهم. وجاءت مكالمات هاتفية من أرجاء الدنيا من زملاء وطلاب. سألت نفسى كيف أفسر هذه المظاهرة التى خففت بعضا من ألم الفراق، فهذا رجل أحب عمله، وأحب الناس فبادلوه حبا بحب، لم يتاجر أبدا بمهنته، آمن أن الطب رسالة فكان مثالا نادر الحدوث فى الأيام العجاف. تدمع العين ويحزن القلب، وندرك أن الموت علينا حق، ونتوجه بالدعاء أن يرحمنا المولى ساعة الحساب، وأدعو لشقيقى أن يرقد فى سلام. لمزيد من مقالات ◀ د. شريف قنديل