فى أواخر يناير 1958، أى منذ نحو ستين عاما، ركبت باخرة من مصر إلى لندن، لأبدأ بعثة حكومية لدراسة الاقتصاد، قبل سفرى بأيام قليلة قابلت فى القاهرة الأستاذ ميشيل عفلق، الذى أسس حزب البعث العربى الاشتراكى فى سوريا فى الأربعينيات، ثم انتشر الحزب بعد ذلك فى دول عربية أخري. كنت قد انضممت حديثا إلى هذا الحزب مع عدد صغير من المصريين، وسمح لنا ذلك بالالتقاء برئيس الحزب عندما يأتى إلى القاهرة، وقد عبر لنا الأستاذ ميشيل عن فرحه بانضمام بعض المصريين، وقال إن الحزب لا مستقبل له إن لم يكن له أعضاء فى مصر. كان الأستاذ ميشيل (هكذا كنا نسميه) رجلا ودودا بشوشا قليل الكلام، ولكنه كان عميق الفكر واسع الثقافة. كان يقول إنه يجد صعوبة فى الكتابة، فكنا نبذل كل جهدنا لذكر ما قاله لنا ثم ندونه فى كتيبات صغيرة ونتدارسها فيما بيننا فى اجتماعاتنا الحزبية. ما أجمل تلك الأيام، ليس فقط لأننا كنا صغار السن وذوى طموحات عالية جدا، ومتفائلين بمستقبلنا كأفراد وكأمة، ولكن لأن هذه الفترة كانت أيضا فترة واعدة بتقدم كبير فى مختلف نواحى الحياة، ليس فقط فى مصر والبلاد العربية بل فى العالم كله. لم يكن «عصر الأيديولوجيات» قد انتهى بعد، فكان كل منا يعتقد فى أيديولوجية ما، واثقا من صحة افكاره ومن انتصارها فى النهاية، وكان عمق ايماننا بالقومية العربية قويا وعميقا، فكان من أسهل الأمور علينا اقناع الآخرين بأن الدول العربية، وإن كانت كل منها منعزلة الآن عن بقية الدول العربية، فإن توحيدها فى دولة واحدة ليس فقط مطلبا وأملا جديرا بالسعى من أجله، ولكنه أيضا ممكن وفى متناول اليد، إذا بذلنا الجهد اللازم وساعدنا الحظ فرزقنا بزعيم سياسى ملهم ومخلص. لم تدم هذه الآمال مدة طويلة. فقد بدأت الأحداث تسير فى عكس الاتجاه المرجو بعد سنوات قليلة، ربما بلغ تفاؤلنا أقصاه عندما تحققت الوحدة بين مصر وسوريا فى فبراير 1958، ثم بقيام ثوة فى العراق فى السنة نفسها، وكانت هذه الثورة تعد بانضمام العراق إلى الدول العربية الأخري، أو إلى بعضها على الأقل، وفجر هذا وذاك انتفاضات فى الأردن وفى لبنان تعبر عن الرغبة فى انضمام هذين الشعبين أيضا إلى مسيرة الوحدة، لم ينجح الانقلاب الذى حدث فى اليمن فى عام 1962فى دعم تفاؤلنا بتحقيق الوحدة العربية، إذ كانت سوريا قد شهدت انقلابا أدى إلى الانفصال عن مصر، وبدأت العراق تتخذ مسارا مختلفا عن مسار الوحدة ولم يشجع هذا أو ذاك دولا عربية أخرى على السير فى طريق الوحدة، واشتدت سواعد أصحاب المصالح فى ضرب الوحدة وعرقلة حركتها. ثم جاءت الضربة القاصمة فى الهجوم الإسرائيلى فى 1967 وهزيمة مصر وسوريا، فتحول فجأة أمل الوحدة العربية إلى أضغاث أحلام. كان وقع الهزيمة العسكرية فى 1967 قاسيا وأضعف بشدة أى أمل فى معاودة النهوض من جديد، ولكن حدثت أيضا فى الاعوام الخمسين الماضية أشياء أخرى أضعفت أكثر فأكثر أى أمل فى تحقيق الوحدة. فقد سار كل بلد عربى منذ ذلك الحين فى طريق مستقل عن البلاد العربية الأخري، وتكونت شرائح اجتماعية ذات مصلحة فى هذا الاستقلال وتجنب أى محاولة للتوحيد. كما نما فى هذه الخمسين عاما نشاط الشركات المسماة المتعددة الجنسيات، وكان لمعظمها مصلحة أكيدة فى أن يسير كل بلد عربى فى طريقه المستقل. ولكن من الذى كان يتصور أن تتطور الأمور بعد انتفاضات ما سمى منذ سبع سنوات «الربيع العربي» إلى ما حدث بالفعل؟ إن الدول العربية سعيدة الحظ هى تلك التى نجت خلال هذه السنوات من الخراب، كان لدينا أمل منذ ستين عاما فى أن تطبق البلاد العربية على الأقل نوى أو آخر من التخطيط يشمل أكثر من بلد عربى واحد، فيستفيد الجميع من وفرة بعض عناصر الانتاج فى بعض الدول العربية دون أخري، العمل متوافر فى بعضا ورأس المال متوافر فى دول عربية أخري، والأرض الزراعية متوافرة فى مجموعة ثالثة. ما أجمل التعاون الذى كان يمكن أن يتم بين هذه الأقسام المختلفة من الدول العربية، والذى لم يكن يحتاج لاتمامه إلا إلى النية الطيبة والايمان الصادق بفائدة الاتحاد، بغرض أن يترك العرب وشأنهم ليفعلوا ما فى مصلحتهم. ولكن يبدو أن النية الطيبة لا تتوافر دائما، وأن الإيمان بالوحدة شيء نادر، والأكثر ندرة هو أن يترك العرب ليفعلوا ما فى مصلحتهم. ومع كل هذا، فإن من المفيد فى رأيى أن نذكر أنفسنا، بين الحين والآخر، كم كانت أحوالنا منذ ستين عاما مختلفة عما هى الآن، وأن نفتش فى ظروف العالم، وفى داخل أنفسنا، عما يمكن أن يكون السبب فيما أصابنا من ضياع، فقد يكون من الأسباب المهمة فقط فقدان الذاكرة، وإذا كان الأمر كذلك فإننا قد نحسن صنعا بتذكير أنفسنا بحجم الآمال التى كنا نحملها، وبأن أجيالا جديدة من العرب لم تشهد لحسن حظها ما مر به جيلنا من أحداث ولم يتلق ما تلقيناه من ضربات. لمزيد من مقالات د. جلال أمين