تحتاج مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلي خطاب إسلامي جديد, وليس مجرد تطوير في الخطاب القائم علي طريقة تغيير طلاء البيت من الخارج, نريده خطابا يقدر تأثير معطيات العصر وتطور العلاقات وأنماط التعاطي مع المعرفة وتطورها من التلقي إلي التفاعل, ومن أحادية المنبر الي تعددية الشبكة, ومن المطلقات إلي رفاهية اختيار اليقين المعرفي. خطاب لا يقتصر علي معيار الصح والخطأ وإنما يضيف إليها معايير تتعلق بالأنسب وما ينفع الناس. وهذا يتطلب الأمر تغييرا نوعيا في بنية الخطاب وأولوياته وإعادة صياغة أطروحاته, لكي يلبي احتياجات الشعوب المسلمة في ظل الظروف الراهنة التي تعيشها,ويستجيب للتحديات التي تواجهها في سياق حركة المجتمع الذاتية التي تتفاعل مع ما يجري حولها في العالم وفق معطيات عصر الاتصال والثورة العلمية الرقمية. نحتاج الي خطاب بنائي يدفع حركة المجتمع عبر الفرز بين قيم التحلي وقيم التخلي, وإدراك سنن التغيير الحضاري بحيث يعيد للإنسان دوره وفاعليته وحضوره في حركة المجتمع. خطاب ينبع أولا من طبيعة الإسلام الذي ينطوي علي دعوة مستمرة إلي التجديد. نريده خطابا يلبي احتياجات شعوبنا التي خرجت في بعض الميادين العربية والإسلامية ترفض الاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي والجمود الفكري الذي فرض عليها عقودا طويلة; مرات من الخارج احتلالا واستعمارا, ومرات أخري من الداخل استبدادا واستحمارا. فلم يكن الخطاب الديني بعيدا عن تفاعلات الداخل والخارج وتحديات التحرر والتنمية علي مدي أكثر من قرنين, بدءا من الحملة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر وحتي الحملة الأمريكية في مطلع هذا القرن الحادي والعشرين. في كل مرحلة أو حملة كان الخطاب الديني يتواكب مع أوليات واحتياجات الشعوب, ففي الماضي غلب عليه الجانب الدفاعي وربما لجأ الي المقاومة للحفاظ علي الهوية في مواجهة الغزو الخارجي, غافلا, الي حد ما, التحديات الداخلية. لكن مع حراك الربيع العربي أدركت الشعوب الإسلامية العلاقة الجدلية بين التحديات الداخلية والخارجية بعد أن تحالفت مصالح بعض النخب الداخلية مع مصالح القوي الخارجية لكبح حركة الشعوب وتطلعها إلي التقدم والحرية, فخرجت الملايين تضع نصب أعينها التحديات الداخلية تطالب بالحرية والخبز والعدالة الاجتماعية, وتعلن فشل الكثير من النخب والأطروحات والأنظمة القائمة وتطالب بالتغيير وبناء الدولة علي أسس مختلفة عما كانت عليه, وصياغة عقد اجتماعي جديد. في غضون ذلك ثار الجدل مرة أخري حول المرجعية وموقع الدين في هذا العقد والدستور المنشود, وهنا نقف علي أعتاب مرحلة جديدة في عمر أمتنا تحتاج ليس فقط إلي تجديد الخطاب الديني وإنما إلي تجديد الأمة.. تجديد البناء والدماء والمؤسسات والأطروحات, فلا يمكن الحديث عن خطاب إسلامي جديد فعال في أي دولة مسلمة دون تجديد مفاصل الدولة وبنيتها وأركانها ومؤسساتها وإعادة بناء المسلم المعاصر فكرا ووجدانا ليكون مشاركا فاعلا في عملية التجديد والبناء ومن هنا يكون تجديد الخطاب الديني ضرورة وطنية وليس ترفا فكريا. إن ما ندعو إليه هنا هو خطاب إسلامي جديد يختلف تماما عن دعوات تجديد أو تطوير الخطاب الديني التي ظهرت عقب أحداث الحادي من سبتمبر2001, فتلك الدعوات وما صاحبها من أنشطة فكرية انطلقت استجابة لدعوات من الخارج او علي الأقل من موقف دفاعي. أما التجديد الذي ندعوه إليه فأنه يقوم علي إرهاصات لخطاب إسلامي نشأت من أرض الواقع; من أفواه الجماهير المسلمة متزامنا مع الربيع العربي وبإرادتها وليس مفروضا عليها أو مطلوبا منها كما حدث في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر, ففي الربيع العربي كانت القوي الوطنية بما فيها التيارات الإسلامية في صدارة المشهد السياسي والمجتمعي والإعلامي, فجاء خطابها من قلب الحدث, ومتخففا من الظروف السابقة التي فرضت عليها الحظر والتقييد والمطاردات الأمنية, وتطلب الأمر أن تدلي بدلوها وفقا لمقتديات المرحلة الجديدة حيث كان التاريخ يصنع والمواقف من القضايا الكبري كالحرية والتعددية والعلاقة بالآخر علي المحك, وليس هناك مجال للتخفي أو الهروب إلي التاريخ. ومن ثم فإن الخطاب الجديد الذي ندعو اليه ينبع هذه المرة من داخل الأمة ويستجيب لاشواقها في تجديد بنيتها كاملة وليس مجرد طلاء من الخارج لبنيان قديم, خطاب يستوعب مختلف علماء الأمة المتخصصين وطاقتهم ولا يقوم به فصيل معين او تيار بعينه, خطاب مرجعيته الأزهر الشريف بتاريخه العريق وطاقاته العلمية والبشرية وامكاناته وقوته الناعمة في ارجاء عالمنا العربي والإسلامي. المزيد من مقالات د0محمد يونس