كان الرجل يكره كل الأماكن التي يوجد بها أشخاص, لذا كان يمقت الشوارع, والمتنزهات, والطرق, والميادين, والأسواق, ومع ذلك كان يهوي رياضة المشي. تري هل يخاصم الرجل مجتمعه ويمقته؟ صحيح أنه قد تكون علاقات السياق الخاص التي تشكل نخبته المحيطة به, مستثناة لديه من هذه الكراهية التي تنحصر فقط فيما يخص علاقات السياق الاجتماعي العام, وصحيح أيضا أنه قد تكون هذه الكراهية لدي الرجل تجليا لمعتقد فكري متطرف يرفض علاقات السياق الاجتماعي العام, ربما ليقينه بعدم انتمائه الي هذا الصنف من الناس, واغترابه عنه, وعجزه عن التفاعل الإنساني معه, والصحيح كذلك أن نزعة الانعزال عن بقية الجسم الاجتماعي, تؤكد فكر القطيعة مع عامة الناس الذي يعلن هزيمة مبدأ العدالة, لكن الصحيح أيضا أن هذه النزعة تمثل في الوقت نفسه موقفا متناقضا بين هواية الرجل الخاصة وإمكانية تحقيقها, وذلك مايتحدي وعيه, ويستوجب مسارا للتغيير, تصويبا لموقفه الذي يؤكد أن الناس متفاوتون في حق الحرية التي يمنحها لنفسه, ويتمني أن يحرم الآخرين منها. ولاشك أن مسار التغيير يخضع بالأساس الي قدرة الرجل علي مراجعة موقفه الشخصي, الأمر الذي يتطلب ضبطا جديدا لتواصله مع سياقه الاجتماعي العام بما هو أكثر إنصافا بالتخلي عن الوله بذاته. تري هل يستطيع الرجل القطيعة مع ما يشكل قاعدة مقاومته لحقوق الآخرين في ممارسة استحقاقاتهم بالسير في الطرقات, أو أنه سيسعي بالتحايل الي فرض هيمنته, منتهكا أبعاد الضبط العامة التي تحفظ للمجتمع حقوقه, ليحقق لنفسه رغبته؟ وسواء أكان الرجل قد تصور أن يمنع الناس من ممارسة استحقاقهم العادل, في ارتياد هذه الأماكن, ليمارس وحده رياضيته المفضلة, أم حاول أن يوهم الناس بأحسن صفاته المفضلة كواجهة تحجب ازدواجه الفكري, ليستولد ذلك التفاعل الإنساني الخادع حتي يستطيع أن يحقق رغبته, سواء أفعل الرجل أم لم يفعل, فإن عجزه فعلي الحقيقة قد تجلي في اقتنائه دراجة ثابته, وضعها أمام مرآة الحمام في منزله, ثم راح يبدل عليها لمدة ساعة يوميا في مواجهة صورته المنعكسة في المرآة, متخيلا أنها لراكب آخر يسير في اتجاه مضاد له, وقد يصطدم به إذا حرك البدال بقوة كافية. ولأنه سجين ذاته, ويكره الآخر, فقد فتنته فكرة الاصطدام به, حيث الآخر ينتمي الي صنف الناس الذي يمقته. تري هل قناعته أوهمته أنه يمتلك وحده حسم الصراع؟ تري الي ما سوف يقوده افتتانه بالصدام مع مجتمعه؟ في إحدي ممارسات الرجل لرياضته, وفي أثناء جلوسه علي مقعد دراجته الثابتة, شعر أن الراكب الآخر الذي يواجهه في المرآة مضادا لاتجاهه, علي مقربة شديدة منه, وخشية أن يفلت من الاصطدام به, وقف الرجل علي بدال دراجته, وبذل جهدا خرافيا باتجاه الآخر ليصطدم به, لكن فجأة إذ بساق الرجل اليمني قد كسرت, وسقطت من جسده واقعة علي الارض, محدثة فرقعة جسم صلب ارتطم بالبلاط. ظل الرجل مصعوقا, مرتبكا, متحيرا, حيث كسرت ساقه كقطعة جص, وانسلتت منه وسقطت كاملة علي الأرض, من دون أن يشعر بأي ألم مثل كل الناس, أو ينزف من جسده دم, أو من ساقه المبتورة الملقاة علي الأرض. عندما استفاق من صدمته, راح يثب متوكئا علي ساقه اليسري, مقتربا من ساقه النائمة علي الأرض, فأمسك بها من الجورب, وجلس شارعا في فحصها, متحريا كل الدلالات التي أكدت أنها ساق حقيقية من اللحم, يكسوها الشعر. لكنه لاحظ أن نسيجها الداخلي يشبه الكرتون الخشن, أدخل يده في ساقه المبتوره حتي وصل الي أصابع القدم دون أن يرتطم بأية عضلة, أو عظمة, أو حشا, أو شيء يذكره بدروس التشريح في دراسته الثانوية, عندئذ هزه زلزال يقصف بكل المسلمات, ويروج بطرح المستحيل: هل من الجائز أن يكون باقي الجسد أجوف؟ وقف الرجل أمام المرآة متفحصا مكان انفصال ساقه اليمني عن جسده, فلاحظ في انعكاس المرآة فتحة تصل الي الفخذ, هي حد علاقة الانفصال لساقه المكسورة, لايتدفق منها دم, وتبدت كثيفة الظلام, فلم يستطع معرفة إذا ما كانت جوفاء أو تحوي مقومات عضوية. ولأنه لايذعن إلا لذاته, ومحكوم بفرضية أنه لايحتاج الي سواه, متعاليا علي كل الشروط, لذا وضع ساقه المبتورة في مكانها الطبيعي من جسده, واستعان بشريط لاصق يمسكهما معا, وراح يمشي في ممر شقته, فوجد نفسه يسير بلا مشقة. لقد تصور أنه محا ما لايمكن أن يمحي, متجاوزا الشرط الانساني الذي يحكم الجميع. تري هل يمثل ذلك إحدي آليات تقدير الذات وتفردها وقدراتها المسيطرة؟ أليس ماحدث يعني أنه رجل لاينافس, وأن لاشيء يعوقه, وأنه الأفضل؟ تري هل عثر الرجل علي أثمن دليل يعزز تفرده, أو أن ذلك أحد مدارارات انهزام إدراكه؟ استبدال الرجل الشريط اللاصق الذي كان يتلف في أثناء استحمامه, واستخدم لاصقا خاصا, واستأنف ممارسة حياته, لكنه لم يعد يستخدم كعادته الدراجة الثابتة, التي ألقي عليها مسئولية ماحدث في فقدانه نشاطه, الذي أنتج تقاعده وفراغه المفاجيء, فعزله عن ممارسة فعاليته, وحرمه من تواصله مع ذاته, فأصبح بقصوره الوظيفي يعيش حاضرا ضيقا متنافرا مع ماضيه, حيث هجر رياضة المشي حتي في منزله, خوفا من تعثره فينكسر من جديد, لذا راح يقضي وقتا طويلا, يتطلع من نافذته, مراقبا نشاط متنزه يقع تحت منزله, ينظر الي الناس الذين يكرههم وهم يمارسون مايفتقده, سواء في نزهاتهم وركضهم, وهو ماقوي لديه نزعة احترابهم. صحيح أن ماضي الرجل بإرثه قد أصبح قيما علي حاضره, بحثا عن صورته الماضية في ظل صعوبات الحاضر المأزوم, أو بحثا عن خيوط امتداد تلك الصورة والتئامها في مستقبله, لكن الصحيح أيضا أن الرجل نتيجة استبطانه لحاضره, جعله واقعه بعد تقاعده مراقبا فقط لكل مايفتقده, فراح يصارع غياب صورته غيابا كاملا, وهو أمر لم يستوعبه, بل لم يستطع حتي إخماد كراهيته للناس, أو تناقضاته مع مجتمعه. ولأن الوعي ليس كالذاكرة يمكن أن تستدعي بالإثارة والإرادة, ولأن الإنسان لايحقق توازنه الكلي إلا بالحضور الدائم لوعيه, لذا فقد أهدرت الكراهية والوله بذاته وعيه, بمعني أن وعيه قد تلاشي أمام مشاعره, التي دفعته الي ممارسة افتتانه بالاصطدام بالآخر, إذ غيبت مشاعر الكراهية عن ذاته معني ممارسة التصحيح والمراجعة, وعصفت بوعيه, حيث قاده وهمه الي إذابة الحقائق, والضرورات, والمرجعيات, والقطيعة معها, متخذا من المسالك الخارقة مايفتح المجال أمام الجموح الذي يتغذي علي تصورات جانحة, تخالف الحقائق, ليضخم من ذاته, ويمنح شخصيته خصائص نوعية متفردة. لقد غزاه شعور جامح بفراغه الداخلي من أية مقومات عضوية, بمعني أنه لا أمعاء له, ولا جهاز تنفسيا, ولا كلي, ولاطحال, في حين أنه علي الحقيقة يتناول الطعام والشراب, ويمارس كل وظائفه الحيوية. استسلم الرجل للغزو الذي سكنه, والمشحون بوهم أصبح مركزا لوجوده, فراح يتناول زيتونا أسود, ويضع نوي الزيتون في أذنيه سامعا إياهن منحدرات داخل جسده حتي يصلن الي قدمه, وهو يتطلع من نافذته مراقبا الأطفال والأمهات وهم يقضون أمسياتهم, متسائلا عما إذ كانوا مجوفين مثله؟ كان تساؤله يزاوج بين الغموض والوضوح واستيهاماته, وهو ما منح الواقع وهما مزعوما أجج رغبته ومشاعره, عندئذ أمسك بندقيته, وأخذ يطلق الرصاص علي الناس في المنتزه. اعتقل الرجل بتهمة قتل ثمانية عشر شخصا بسلاح آلي من نافذته. أصر في المحاكمة أن ذلك افتراء, لأنهم مجوفون, وكل مافعله هو أنه أحدث بهم ثقوبا, يمكن تغطيتها بشريط لاصق. احتجز في مصحة نفسية, وكانوا يعطونه أقراصا لعلاجه, فإذ به يفتح في ركبته طاقة, راح يلقي فيها أقراص علاجه, لتتجمع في قدمه مثل نوي الزيتون الذي كان يبتلعه, بل فتح بابا في صدره, وعلق رفوفا, وضع عليها أوراقه المفضلة, ولأنه مازال يكره الناس في مجتمعه, كان يفتح باب صدره, ويتناول أوراقه, ويقضي الوقت في مراجعتها. ولأن في كل المجتمعات يغدو هذا النموذج موضوعا للاستثمار من قبل الآخرين, فقد ظهر له محام استأنف حكم الإدانة, إذ كان هو أيضا أجوف مثله. إن الكاتب الاسباني خوان خوسيه مياس, في قصته الأجوف, يستولد من أحداثها الكابوسية الساخرة, تساؤلات تفضح الدعاوي المضللة, وتأثيرات الأوهام المدمرة, ونتائج الوقوع في أسر الهواجس القاتلة التي تهرب من المعايير والحقائق, لتنتج رؤي نرجسية مفلسة, وذلك عندما ينسحق الإنسان أمام مشاعر تزيف الحقائق وتشوهها, إذ الهاجس الملح الجائر للرجل في قصتنا, بوصفه مصدر المشكلة, يتجلي في هيمنة ولهه الشديد بذاته, وغايته التي يوليها انهمامه, بضرورة حصوله علي مكانة متفردة مسيطرة, واستسلامه لمشاعر الكراهية التي دفعته الي اقصاء الآخر واستئصاله ولو بقتله. تري كيف يمكن أن نحمي المجتمع من انتهاكات أصحاب الأوهام والهواجس المهيمنة, التي تؤدي الي تخريب مجري حياة الناس وتدميرها, وفقا لحسابات وتصورات خاطئة, ورهانات مفخخة, تنتج خرابا وكوارث محققة؟ كيف نواجه من يتجاهلون خارطة مسار أبعاد الضبط العام لاستمرار المجتمع واستقلاله, وفقا لمصالحه العامة, ويحاولون فرض رؤاهم علي الناس, بوصفهم الأوصياء, حيث يحق لهم ما لا يحق لغيرهم, فيدفعون المجتمع الي عاصفة فوضي, يتلاشي معها وجود المجتمع لصالح رغباتهم الخاصة, وذلك علي حساب مصائر الناس وحقوقهم؟ صحيح أن الرجل في القصة قد سقط مشروعه, وجرت إدانته, لكن الصحيح أيضا أنه مازال هناك محاميه الأجوف مثله ينادي ببراءته, لذا ستظل التساؤلات باقية مادام أن هناك من يغضون الطرف, أو يضلون, أو يضللون الناس عن قراءة معطيات العالم وتحولاته, وآليات اشتغالها وانعكاساتها وتأثيراتها في جغرافيا المجتمعات وتاريخها وثقافتها.