إذا أردنا وصف عالمنا المعاصر الذى نعيش فيه الآن فهو الكتلة المتشابكة من المتناقضات، عالم يتمزق إربا ويعيش حالة من التعاسة والقلق، عالم تفوح منه روائح كريهة، عالم تغيرت بين دوله الكبرى قواعد اللعبة وتحول من دول تسعى لتحقيق إمبراطوريات إلى عالم أسواق، كل دولة تسعى وراء تحقيق مصالحها باستخدام ما يسمى «السياسة الواقعية» التى لاتمت للأخلاق أو المبادئ فى شيء، عالم انتهى فيه دور البوارج الحربية وسقطت نظرية شاعرنا العربى أبى تمام فى بيتيه الشهيرين «السيف أصدق أنباء من الكتب فى حده الحد بين الجد واللعب، بيض الصفائح لا سود الصحائف فى متونهن جلاء الشك والريب» فبدلا من احتلال البلاد والعباد والاستيلاء على ثروات الشعوب بالقوة الجبرية وتحريك الجيوش أصبح تركيز الدول الكبرى على الدخول إلى الأسواق، والحقيقة أنه لا سيطرة لأى دولة من الدول الكبرى على العالم ولكن من بين 185 دولة الأعضاء فى الأممالمتحدة هناك سبع دول فقط تصدر نصف التجارة العالمية وتنتج ثلاثة أرباع نفقات الدفاع فى العالم، ولا تزال تؤثر بقوة على مجرى الأحداث فى المناطق البعيدة عن حدودها وتشكِل العالم ولكن بطرق أكثر خبثا ولؤما عما كان يحدث فى مطلع القرن العشرين والهدف السيطرة على الأسواق، ولألبرت أينشتين قول فى أن تهديدات المستقبل لا تتشابه مع صدمات الماضى. عندما تغيرت أهداف القوى الكبرى فى العالم من عالم إمبراطوريات وهيمنة إلى عالم تنافس من أجل السوق دخل المجال المغامرون والمقاولون أفرادا وشركات ومنظمات غير حكومية ومؤسسات إعلامية ضخمة نمت ووجدت مكانها دون إخلال بالنظام . إن من الاقتصاديات المائة الكبرى فى العالم 51 شركة والباقى دول، وأنتجت إحدى هذه الشركات سلعا وخدمات فى نهاية القرن العشرين مثل ما أنتجته كل دول أوروبا فى عام 1900، وهكذا تغيرت الوسيلة لتحقيق الأهداف الجديدة ومن أهمها الحروب الإعلامية من خلال تحالف المؤسسات الإعلامية الكبيرة مع السلطة وهى تستخدم سلاحا فتاكا ينتقى جانبا من الحقيقة ويخفى جانبا آخر ليحقق الهدف، تتسابق الدول الكبرى فى اللعبة الجديدة، وفى دراسة إعلامية مقارنة ل770 قناة إخبارية عالمية قامت الباحثة بتحليل كل التقارير حول الحروب والأزمات فى الدول الإسلامية فوجدت أن هذه القنوات تصطاد أهم الأحداث اليومية وتمنح دائما الأحداث السلبية قيمة إعلامية أعلى مما تمنحه للأحداث الإيجابية، وقد جاء فى التقرير السنوى حول البث الفضائى العربى لعام 2014 أن أداء وسائل الاتصال ليس دائما محايدا بما فى ذلك البلدان الأكثر تقدما وتصنيفا ويلاحظ هذا بشكل واضح يوميا فى القنوات الموجهة إلى المشاهد العربى من داخل المنطقة العربية وخارجها، وفى دراسة مهمة تقدمت بها الباحثة شيرين إبراهيم منصور لنيل الماجستير فى الإعلام عن معالجة القنوات الإخبارية الدولية لقضايا الأمن القومى المصرى (دراسة وصفية على ملف مياه النيل) توصلت إلى أن الاهتمام الدولى بملف سد النهضة جاء وفقا لأجندة محددة تختلف من قناة لأخرى حسب توجهات القناة، فمثلا قناة فرنسا 24 لم تلتزم المعايير المهنية أثناء طرحها الموضوع وذكرت أسباب كثيرة لا متسع لذكرها ولكنها ختمت بأن ليس هناك مايسمى بالحياد الذى تتغنى به بعض المؤسسات الإعلامية وأنه لا حديث عن المثالية فى المعالجات الإعلامية. صحيح أن الحرب العالمية الأولى هى التى فتحت الطريق أمام الآلة الإعلامية للعمل كشريك مؤثر فى صياغة الأحداث والمساهمة فى النتائج الأخيرة للحرب سواء بالنصر أو الهزيمة، وهى فى الوقت نفسه أثارت الانتباه إلى مايمكن أن يفعله الإعلام من تزوير للواقع والسيطرة والتوجيه وهو ما يتم الآن بامتياز رغم أنف أبى تمام. لمزيد من مقالات ◀ سهيلة نظمى