فى هذا الشهر تحل ذكرى عزيزة على المصريين، هى الذكرى المئوية لميلاد زعيم عظيم، ولد فى 15 يناير 1918، ويقترن اسمه بأحداث وانجازات رائعة لا يقترن مثلها باسم زعيم مصرى آخر فى العصر الحديث، صحيح أن اسمه اقترن أيضا ببعض الاخفاقات الكبيرة، ولكنها لم تستطع أن تمحو الذكرى الطيبة لأعماله العظيمة. كان الشاعر العراقى مهدى الجواهرى محقا إذن عندما وصف جمال عبد الناصر عند وفاته بأنه »عظيم المجد والأخطاء«، وكذلك كان الشاعر المصرى أحمد فؤاد نجم فى رثائه لعبد الناصر، إذ قال إنه »عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت. وإن كان جرح قلبنا، كل الجراح طابت«. لقد وصفت جمال عبد الناصر مرة، فى مقال سابق لي، بأنه كان رجلا سعيد الحظ إذ اقترنت الحقبة الناصرية فى مصر بما اسميته »الزمن الجميل«، ليس فقط فى مصر بل وربما فى العالم كله. كانت العشر سنوات التى شهدت صعود الناصرية وأهم انجازاته (55 1965)، فترة مدهشة فى حياة العالم الثالث، إذ شهدت صعود سياسة الحياد الايجابى أو عدم الانحياز، وتسلم حكام وطنيين مقاليد الحكم رفعوا شعارات الاستقلال السياسى والاقتصادي، ونجح كثير منهم فى تحقيق الهدفين، قبل أن تتغير ظروف العالم، ومعها ظروف العالم الثالث، فأصبح الاستقلال الاقتصادى هدفا بعيد المنال فى ظل هيمنة الشركات متعددة الجنسيات. كان ذلك الزمن أيضا زمنا جميلا فى العالمين الرأسمالى والاشتراكي، شهدا خلاله صعود بعض الشخصيات الفذة إلى قمة السلطة فى كلا المعسكرين، جون كينيدى فى الولاياتالمتحدة ونيكيتا خروتشوف فى الاتحاد السوفيتي. ما الذى جعل ذلك الزمن «جميلا»، ثم ما الذى أدى إلى انقضائه فى وقت ما خلال النصف الثانى من الستينيات؟ من الممكن تفسيره بأن شيئا قريبا من التعادل ساد فى ذلك الوقت بين القوتين العظميين مما منع أيا منهما من السيطرة المنفردة على العالم، وسمح للدول الصغيرة بحرية الحركة، ومحاولة الفوز بالاستقلال، كما يمكن تفسيره بأن التنافس الأيديولوجى بين هاتين القوتين (بصرف النظر عن تعاطفنا مع هذه الأيديولوجية أو تلك) كان تنافسا فى »قضية أخلاقية«، وليس فى قضية اقتصادية بحتة تدور حول تحقيق أقصى ربح ممكن، كالذى شهدناه ابتداء من أوائل السبعينيات. ولكن أيا كان التفسير فالمؤكد أن الشخصيات التى صعدت إلى الحكم فى معظم دول العالم ابتداء من السبعينيات كانت أقل التزاما بالقضايا الأخلاقية وأكثر تمسكا بمغانم السلطة. هذا التشخيص ينطبق فى رأيى على مصر والبلاد العربية الأخري، كانطباقه على معظم بلاد العالم الثالث، وعلى المعسكرين الغربى والشرقي، فلنقارن مثلا بين سياسة الريجانية التى سادت فى الولاياتالمتحدة طوال الثمانينيات وبين سياسة جون كينيدي، أو بين سياسة خلفاء خروتشوف فى الاتحاد السوفيتى وسياسة خروتشوف نفسه أو ستالين. أصبح معدل النمو الاقتصادى هو المعيار الأكثر انتشارا فى تقييم السياسة الاقتصادية فى مختلف الدول بالمقارنة بقضية توزيع الدخل، وهو (أى معيار معدل النمو) لا يميز بين ذهاب ثمار التقدم الاقتصادى لقلة ضئيلة تستأثر بالحكم وبين توزيعها توزيعا اكثر عدالة. هذا التحول هو ما شهدناه فى مصر منذ منتصف السبعينيات، وهذا هو أحد أسباب اعتبارنا فترة (55 1965) »زمنا جميلا«، من حقنا أن نحنّ اليه كما يحنّ المرء إلى فترة الصبا والشباب التى تتسم بطموحات أكبر والتمسك بالمثل العليا، وثقة أكبر فى قدرة المرء على تحقيق هذه الطموحات والمثل العليا فى الواقع. نعم لقد أصبحنا أكثر واقعية مما كنا خلال الزمن الجميل، ولكن الواقعية التى تفتقر إلى الخيال والطموح ليست بالضرورة صفة أفضل من التمسك بالمثل العليا، إذا كانت هذه الواقعية تعنى قبول ما لا يمكن أن ترضى عنه الأخلاق. هذا هو بعض ما تحمله لنا ذكرى جمال عبد الناصر، وهو ما يجعلنا نغض البصر أحيانا عن خطأ هنا أو هناك، بل وحتى عن اقتران عصره بدرجة من الاستبداد تزيد عما كان سائدا قبل ذلك العصر وبعده. لمزيد من مقالات د. جلال أمين