عندما وقعت كارثة الهزيمة منذ خمسين عاما (فى 5 يونيو 1967)، لم أكن ممن فسروا ذلك بخطأ ارتكبه نظام جمال عبدالناصر، بل كنت وما أزال أميل إلى الاعتقاد بأن ما حدث كان واقعا لا محالة، وأن الولاياتالمتحدة (ومعها إسرائيل) لم يكن من الممكن أن يقبلا أن ينمو نفوذ عبد الناصر وتأثيره فى المنطقة العربية إلى أكثر مما بلغه بالفعل، كان ضرب مصر فى ذلك الوقت إجراء حتميا، وبهذا كان عبد الناصر (ومعه مصر والعرب كلهم) يدفع ثمن تجرئه على تحدى قوى أكبر منه، عسكريا وسياسيا واقتصاديا. ولكن مع مرور الزمن، والتفكير من جديد فى التجربة الناصرية، أميل أيضا إلى اعتبار جمال عبدالناصر رجلا سعيد الحظ، كان للرجل السمات المطلوبة فى زعيم شعبي، إذ كان يتمتع بجاذبية شخصيته وقوة الإرادة وثقة عالية بالنفس، ولكنه أيضا كان رئيسا فى عصر متميز بدوره، عصر نهرو وسوكارنو وبن بلا ونيكروما، وهذا هو ما أقصده بالقول بأنه كان رجلا سعيد الحظ. لقد وصفت تلك الفترة من القرن العشرين (الخمسينيات وأوائل الستينيات) فى مقال سابق بهذه الجريدة، بأنها اتسمت بما يمكن تسميته «بقوة الالتزام الخلقي»، أى بقوة الشعور بأن على الفرد مسئولية اجتماعية إلى جانب العمل لمصلحته الشخصية والعائلية. لا يمكن الزعم بأن هذا الشعور قد انتهى بانتهاء الستينيات، ولكنى أزعم أنه منذ سبعينيات القرن العشرين اشتد الاهتمام بالصعود والترقى الفردي، فى صورة زيادة دخل الفرد والارتفاع بمستوى معيشته، على حساب الانشغال بالصالح العام. قرأت مؤخرا عن استطلاع للرأى جرى لطلبة مدارس فى انجلترا فى سنة 1949، تبين منه أن ارتفاع مستوى الذكاء يقترن بطموح التلاميذ إلى العمل فى وظائف يحققون فيها شخصياتهم أكثر من طموحهم إلى وظائف ذات مكافأة مادية عالية، بالمقارنة بما يلاحظ الآن من تفضيلهم للمكافآت الأعلى بالمقارنة بنوع العمل الذى يقومون به. كان عبد الناصر رئيسا فى تلك الفترة التى ارتفع فيها سقف الالتزام الاجتماعي، وساد تقييم للناس والسياسيين على أساس قوة هذا الالتزام، ومدى نبل الأهداف التى يسعى المرء إلى تحقيقها. ثم جاءت هزيمة 1967، فكانت ضربة لعبد الناصر ولمصر والعرب. ولكنها كانت أيضا علامة من علامات انتهاء عصر بأكمله. هل كان مجرد صدفة أن يشهد العام التالى (1968) انكسار حركة تحرر نبيلة أيضا فى تشيكوسلوفاكيا وهى التى قادها دوبشيك للتخلص من السيطرة السوفيتية، ثم اضطرار زعيم هذه الحركة إلى هجرة السياسة كلها والاشتغال بعمل يدوي؟ تلا ذلك حلول عصر «الانفتاح» فى بلد عربى بعد آخر، وهو ما كان يقترن بحلول الطموحات الفردية إلى زيادة الاستهلاك محل المشروعات القومية التى تهدف إلى احداث نهضة اجتماعية شاملة. لست من أنصار الفكرة التى تؤكد دور الرجل العظيم فى التاريخ، أى أن صفات القائد أو الرئيس الشخصية هى التى تحدد نوع التطور فى بلاده، وما إذا كانت أمته سوف تتقدم أو تتأخر. الأرجح فى رأيى أن الظروف الاجتماعية والدولية السائدة عامل مهم وأساسى فى تحديد مدى قدرة أى قائد أو رئيس على النهوض ببلاده أو استمرارها فيما هى فيه وقد كانت الخمسينيات والستينيات من نوع تلك الفترات الرائعة التى تشحذ الهمم، ويعم فيها التفاؤل بإمكانية تحقيق ما هو أفضل. فما هى يا ترى تلك الظروف التى ساعدت على شيوع ذلك «المناخ الجميل»؟ هناك أولا قرب عهد الدول التى كانت خاضعة للاستعمار بالتحرر والاستقلال. وقد احتل مركز الرئاسة فى كثير من هذه الدول بعد الاستقلال رجال كانوا هم من قادوا حركة التحرر من الاستعمار. ولكن كانت هناك أيضا الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالى والاشتراكي، مما شجع على قيام حركة عرفت باسم «الحياد الايجابي»، تدعو إلى عدم الانحياز، لا للغرب ولا للشرق، وابتداع نموذج مستقل يسمح لكل بلد من بلاد العالم الثالث باحترام خصوصيته وثرائه الثقافي. لقد تبين الآن أن هناك حدودا لما يمكن أن يتحقق من هذا الاستقلال، ولكن الفكرة نفسها كانت نبيلة وسمحت لتمتع كثير من هذه البلاد ببعض الحرية فى اختيار سياساتها. كان عبد الناصر ونهرو ونيكروما من أبرز ممثلى هذه الحركة، وقد استطاعوا بالفعل، بدرجات متفاوتة، أن يمارسوا نوعا من استقلال الإرادة، ولكن للأسف لم تستمر هذه الظروف الدولية المواتية. وقد كانت وفاة عبد الناصر 28 سبتمبر 1970، مؤشرا إلى بداية انحسار هذه الظروف المواتية. لم يتجاوز عمر عبد الناصر عند وفاته 52 عاما، وكأنه كان يشعر بأن ما سيحدث فى العالم فى السنوات التالية لن يسمح له باستكمال مشروعه. ظهر أيضا أن ما أصاب مصر والعالم العربى فى بداية السبعينيات أصاب بلادا كثيرة غيرها. ضعفت همة السياسيين، وانخفضت بشدة درجة التفاؤل، وظهر أن قوى عاتية جديدة، ليست أقل عنفا من الاستعمار السياسى والعسكري، سوف تعطل السعى نحو النهضة فى تلك البلاد. لم يشهد عبد الناصر ما حدث فى السبعينيات وما بعدها، ومن ثم لم يكن مسئولا عن هذه الأحداث، بعكس ما يعتقده كثيرون من أن ما حدث فى السبعينيات من تدهور كان رد فعل لما فعله أمثال عبد الناصر فى الخمسينيات والستينيات. إنى لا أتفق مع هذا الرأي، وأعتقد أن فيه كثيرا من الظلم لعبد الناصر وأمثاله، ممن بدأ إرساء دعائم النهضة فى بلادهم ثم جاءت السبعينيات وأوقفتها. الدليل على ذلك كثرة الأمثلة على خيبة الآمال فى بلاد كثيرة بعد انتهاء الستينيات، فى المشرق العربى وفى كثير من الدول الإفريقية والآسيوية. ربما لم تنج من هذا المصير إلا دولة بحجم الصين، ولكن حتى الصين يبدو أنها اضطرت إلى تعديل مشروعها النهضوى بما يسمح بنمو النزعة الاستهلاكية على حساب أهداف أخرى أشد ارتباطا بالمبادئ الأخلاقية. ربما جاز إذن اعتبار جمال عبد الناصر رجلا سعيد الحظ، ولو لهذا السبب وحده، أى لأنه لم يشهد ما حدث بعد وفاته. لمزيد من مقالات د. جلال أمين;