بدأتْ معرفتى بالكاتب صلاح عيسى فى السبعينيات. وأذكرأنه شجّعنى على إعداد دراسة عن (الجمعيات العربية السرية) التى تصدّتْ للخلافة العثمانية. وشجّعنى على الكتابة فى إصدارات (الفتى العربى) التى صدر منها الكثير من قصص للأطفال بأسلوب شيق وهادف، خاصة ما كتبه الأديب السورى (زكريا تامر) وتطوّرتْ العلاقة أكثر عندما تولى رئاسة تحرير صحيفة الأهالى ثمّ صحيفة القاهرة. وكانت له (لازمة) عند استقباله لضيوفه ((أهلا يا جميل)) والجملة الثانية ((إيه الأخبار؟)) فكنتُ أداعبه وأقول: هىّ الأخبار عندى ولاّعندك؟ فيُقهقه بضحكته الشهيرة ويقول: ياسيدى كلنا بنكمل بعض. ولأنه تمرّس وعرف المعنى الحقيقى لمفهوم الصحافة (رغم ابتعاده عنها لاعتقاله لعدة سنوات) لذلك عندما نشرتْ صحيفة الأهرام أسماء أعضاء حزب (مصرالأم تحت التأسيس) وكنتُ أحد الأعضاء المؤسسين، ومعى الراحليْن الجليليْن (محسن لطفى السيد وبيومى قنديل) فإذا بصلاح عيسى يُكلف مُحرر والاتصال بى لإجراء حوار معى. وبالفعل نُشر حوارى كما هو دون حذف حرف واحد، بالرغم من أننى حرصتُ على شرح برنامج الحزب، وركّزتُ على أهم محورين: علمنة مؤسسات الدولة والدفاع عن (القومية المصرية) كمدخل للدفاع عن الخصوصية الثقافية التى ميّزتْ شعبنا المصرى عبْر التاريخ، وهى الخصوصية التى دافع عنها (كل) علماء الأنثروبولوجيا. بعد نشر أسماء المؤسسين فى الأهرام، بدأتْ (نيران المدفعية الثقيلة) تُصوّب على أهداف برنامج الحزب، من صحفيين كبار(فى معظم الصحف والمجلات المصرية) ووصلتْ السخرية لدرجة أنّ أحدهم ادّعى علينا أننا نُطالب (بعبادة عجل أبيس) إلخ. واشترك فى هذا الهجوم مؤرخ رزين ولكن بأسلوب بعيد عن الإسفاف. ذهبتُ لصلاح عيسى واستأذنته فى كتابة سلسلة من المقالات، أرد فيها على افتراءات من كتبوا بهدف تشويه برنامج الحزب، وتشويه الدور الحضارى لتاريخ مصر منذ تأسيس الحضارة المصرية، فوافق على اقتراحى وبدون تفكير، ولكنه طلب منى عدم ذكر أسماء الذين هاجموا برنامج الحزب والاكتفاء بتاريخ ومصدر النشر. فكتبتُ سلسلة مقالات نُشرتْ كلها. وأذكر أنه بعد المقال الثانى، بدأ البعض يرد على مقالاتى، سواء بالتأييد أو بالاعتراض. وكنتُ أقرأ مقالات المعترضين بترحاب وبتفهم لدور الصحافة الجادة التى تفتح صفحاتها لكل الآراء، طالما كانت فى الإطار الموضوعى. وهكذا استمرّ التعاون مع صحيفة القاهرة فى عهد صلاح عيسى طوال 15سنة. وبعد أنْ أصبح رئيس مجلس الإدارة كنتُ أحرص على زيارته فى مكتبه، فكان يُبادرنى بجملته الأثيرة (أهلا يا جميل) أعتقد أنّ صلاح عيسى أحد المؤرخين الجادين والمهمين الذين تناولوا تاريخ مصر الحديثة. وقد تأكّد هذا المعنى داخل عقلى منذ أنْ قرأتُ كتابه الضخم عن (الثورة العرابية) أو سلسلة كتبه التى منحها عنوانا ثابتا (حكايات من دفتر الوطن) وعلى سبيل المثال (ولأنه قارىء لتاريخ الصحافة المصرية منذ أواخر القرن التاسع عشر) لذلك اختار مقالا كتبه طه حسين فى (صحيفة السياسة) عن مسرحية (قانون الرجل) تأليف (بول هرفيو)، الذى تناول فيها مصدر الظلم الواقع على المرأة بسبب حرمانها من حقوقها السياسية.. إلخ فكان تعليق طه حسين (لو كان الأمر بيدى لما اكتفيتُ بإقرار المساواة بين الرجال والنساء فى هذه الحقوق، بل لتنازلتُ للنساء عن كثير من الحقوق) ومن دفتر الوطن يلتقط صلاح عيسى ما كتبه بيرم التونسى عن الملك فؤاد: جابوك الإنجليزيا فؤاد قعدوك تمثل على العرش دور الملوك وخلوك تبهدل فى أمة أبوك وخلوك تخالط بنات البلاد على شرط تقطع رقابى العباد وفين يلقوا زيك ممثل ودون وتنسى زمان وقفتك يا فؤاد على البنك تشحت شوية زيتون ومن دفتر الوطن يختارما فعله سعد زغلول عندما اختار(ويصا واصف) ليضمه إلى حزب الوفد ولكن ويصا واصف اعتذر(لأسباب خاصة) ورشح بدلا منه (واصف غالى باشا) أما ويصا واصف فإنّ مواقفه الوطنية أهلته ليكون (رئيس مجلس النواب) فى تلك الفترة من تاريخ مصر السياسى حيث كان الانتماء للوطن لم يختلط بالانتماء للديانة، بالرغم من وجود جماعة الإخوان المسلمين، ودور صحافتهم التى كرّستْ لمقولة أنّ الولاء يكون للديانة (فقط) وأنّ الإسلام لايعترف بالولاء للأرض. ومن دفتر الوطن يلتقط صلاح عيسى مشهدًا جمع بين الواقعية والفانتازيا، ففى قرية من قرى وسط الدلتا كانت ضمن مناطق محمود باشا الأتربى، أحد أنصار حزب الوفد. وأمرصدقى باشا (وزيرالداخلية) بعض الوزراء بزيارة القرية. وكان أهالى القرية مع الوفد ويكرهون صدقى باشا، فماذا يفعلون؟ تحايلوا على الموقف (بالخبث الفلاحى الظريف) حيث خرجوا إلى الطريق الزراعى (بلافتاتهم وحميرهم) ووققوا فى انتظار موكب الوزراء. وقبل دقائق من مرور الموكب، علق الأهالى اللافتات على الحمير ثم بدأوا يتسربون بخفة إلى الحقول. اندهش الوزراء عندما لم يجدو أى إنسان فى استقبالهم، وإنما وجدوا صفًا من الحمير وعلى رأس كل حمار لافتة عليها جملة (تعيش حكومة جلالة الملك) وبينما الوزراء فى حيرة وامتعاض، وصلتْ إلى سمعهم ضحكات الفلاحين الخافتة. ومن دفتر الوطن التقط صلاح عيسى رسمًا من فنانى الكاريكاتير من (مجلة الصرخة الصادرة عن روز اليوسف) فيه هجوم وسخرية من إسماعيل صدقى (وقت أنْ كان رئيس الوزارة) حيث ظهر فى الرسم وهو جالس على جسد سيدة فقيرة (ممصوصة الوجه والبدن) وقد وضع كفه على عينه مثل الذى يحاول النظرإلى مسافة بعيدة، ويقول: باسمع كتير عن مصر. وعن إرادة الأمة. بس هىّ فين الأمة دى؟ أنا موش شايفها. وفى كاريكاتير آخر جمع بين على ماهر وصدقى وقد رسمه الفنان وهو يرتدى بدلة واسعة جدا عليه، ومع ذلك يقول: بعد الانتخابات سوف أصبح زعيم الأغلبية. فقال على ماهر: على مهلك شوية. بدلة سعد باشا دى ما فيش حد يقدر يلبسها غيره. ويلتقط صلاح عيسى من دفتر الوطن قصة من قصص كفاح شعبنا ضد المحتل الإنجليزى، من بينها قصة المناضل (عبدالحكم الجارحى) الذى شهد مذبحة فتح (كوبرى عباس) على المتظاهرين. وبعد إصابته برصاص جنود الاحتلال، حمله زملاؤه إلى مستشفى قصر العينى. وقبل أنْ يلفظ أنفاسه الأخيرة طلب ورقة وقلما فكتب يشكر الأطباء ((على ما بذلتموه من أجلى. وأنا أعتبر هذا أقل واجب فى سبيل الوطن الذى وهبنا الحياة. ووهب الحضارة للعالم)) وكتب رسالة: إلى رئيس وزراء انجلترا (روح الشر) قال له فيها ((سيدى. أحد رجالكم الأغبياء رمانى برصاصة وأنا حاليا أمشى إلى الموت. ولكننى سعيد للغاية بأنْ أترك روحى تُنتزع منى وأضحى بدمى. إنّ موتى أمر تافه. وآلام جسدى عذبة المذاق. من أجل مصرنا نحن. فلتحيا مصر وليسقط الاستعمار البريطانى)) (من ص299- 305) وهكذا كان صلاح عيسى وهو ينبش فى دفاتر الوطن، ليستخرج أجمل ما فى الوطن.