لم يعرف تاريخ البشر كتابا حفظه مئات الملايين عن ظهر قلب ويتردد في أرجاء العالم آلاف المرات كل يوم ولا يمل الملايين من سماعه مثل القرآن الكريم وهذا في رأيي أهم صفة من صفات معجزة القرآن. هذا الإرتباط غير العادي بين كلماته وبين سامعه. وعدد سور القرآن114 سورة تضم حسب إتفاق معظم العلماء77439 كلمة بها323671 حرفا. مما يعني أنه ليس كتابا صغيرا بل كبيرا إلي حد ما وكثير من آياته ليست سهلة ومع ذلك نجد الأطفال الصغار يبرعون في حفظه كأنه قصيدة شعر سلسة وسهلة بينما هو ليس شعرا ولا نثرا وهذه صفة أخري من صفات إعجازه. وقد شهد التاريخ محاولات بشرية لكتابة كتب إنتشرت في كل العالم وإشتهرت لكن لم يحدث أن حفظها الذين قرأوها عن ظهر قلب كما حدث مع القرآن الكريم وفي أحسن الأحوال يتم الرجوع إليها عند محاولة الإسترشاد بها. بل أكثر من ذلك جرت محاولات علي مستور رؤساء الدول لنشر كتب لهم ضمنوها أفكارهم وفرضوها علي مواطنيهم لقراءتها صباحا ومساء ولكن ما أن رحلوا عن العالم حتي إختفت كتبهم. آخرهم العقيد معمر القذافي الذي ملأ الجو صخبا بكتابه الأخضر الذي ضمنه ما أطلق عليه النظرية الثالثة. وأذكر أنه زار مصر في أغسطس1990 بعد أيام من غزو صدام حسين للكويت, ودعينا للقاءه في قصر القبة وقد ذهبنا متصورين أنه سيحدثنا عن الهم الأكبر الذي يواجه العرب بقيام احد رؤسائهم بإختطاف دولة جارة ومحاولة شطبها من الجغرافيا, إلا أننا فوجئنا عندما بدأ الحوار أنه غير مهتم بهذه القضية الهايفة وأنه مشغول بما هو أهم وسيخلده التاريخ وهو نظريته الثالثة! وطبعت ملايين النسخ من كتابه الأخضر وتم تداولها بين الليبيين وعقدوا آلاف المؤتمرات لمناقشته والتسبيح بعبقريته لكن ما أن مات القذافي حتي إختفي الكتاب الأخضر وضاع من ذاكرة الذين كانوا يقرأونه ويناقشونه في عديد المؤتمرات التي عقدوها. وقبل ذلك كان الزعيم الصيني ماوتسي تونج قد جمع كثيرا من أقوله التي رددها في خطب كثيرة ألقاها خلال تعبئة جماهير الصينيين لثورته.. تم جمع ذلك في كتاب صغير أطلق عليه الكتاب الأحمر للون جلدته وفي أول زيارة لي للصين عام1966 شاهدت الكتاب الأحمر في كل يد ورأيت الصينيين لا يبداون عملا قبل أن يقف واحد منهم وفتح الكتاب الأحمر وراح يقرأ من سطوره بعض نفحات الزعيم.. وطبع مئات الملايين من كتاب ماوتسي تونج وترجم إلي مختلف اللغات, وفي زياراتي بعد ذلك للصين وكان ما قد رحل عن دنيانا لم أجد نسخة من الكتاب الأحمر الذي أصبح يعرض في المتاحف في الوقت الذي إنقلبت فيه الصين علي سياسة ماو. القرآن ومعجزات الأنبياء وقد أيد الحق سبحانه وتعالي كل رسول بمعجزات تدل علي صدقهم ونبوتهم. فالمعجزة وهي العمل الخارق لنواميس الناس ومألوفهم علامة صدق النبي خاصة وأنه لا ينسب قيامه بها لنفسه وإنما إلي الله الذي أرسله. ولو خلا نبي من معجزة لأمكن لقومه أن يكذبوه ولأمكن لغيره أن يدعي مثل ما إدعي دون أن يطالب بدليل. إلا أن النبياء السابقين كانت معجزاتهم حسية إنقضت بحدوثها. فالنبي موسي عليه السلام كانت معجزته الكبري عصاه التي إنقلبت بإرادة الله حية إلتهمت ما فعله السحرة, كما شق البحر لمن خرجوا معه من مصر وكان فرعون وجنوده يتبعونهم بأسلحتهم التي تجهز عليهم فكان أن انجاهم الله عندما شق موسي البحر بعصاه فإذا طريق مفتوح عبروه وعندما تبعه فرعون وجنوده أطبق عليهم موج البحر وأغرقهم. وقد شاهد اليهود المعجزة بعيونهم ولكنها إنقضت بحدوثها وبلغها من لم يحضرها وجاء القرآن الكريم المنزل من الحق سبحانه وتعالي ليوثقها ولولا ذلك لشكك الملايين في صدقها. وبالنسبة لسيدنا عيسي فقد كانت ولادته في حد ذاتها معجزة وكلامه في المهد بعد ولادته ليبريء أمه معجزة ووينفخ في الطين كهيئة الطير فتكون طيرا زيبريء الأكمة والأبرص ويخرج الموتي وكل ذلك بإذن الله الذي أرسله وهي معجزات حدثت في زمانها ورآها من رآها وتناقلوا حكاياتها بعد ذلك ثم وثقها القرآن الكريم. وغير ذلك معجزات الأنبياء الآخرين التي أكدها القرآن وأصبحنا نحن المسلمين لها مصدقين. القرآن الكريم معجزة متجددة فهذا القرآن الكريم هو نفسه المعجزة المتجددة والحاضرة معنا كما كانت مع أجداد أجدادنا ومن بعدهم منذ نزول الإسلام إلي يوم البعث. فقد إختار الله محمدا الذي لا يعرف عنه أن يقرأ ويكتب أو أنه شاعر أو متعمق في اللغة العربية التي كان العرب في زمان الرسول يتبارزون بها شعرا وعلما. إختار الحق رسوله لينزل عليه كتابه بادئا بكلمة إقرأ إشارة إلي تعلمه قراءة مايملي عليه وهو الأمي. وهكذا قام النبي عليه الصلاة والسلام بترديد ما أوحي إليه من الحق. ولأن الكلمات ليست من تأليف بشر وإنما من تنزيل الله مالك الملك الخالق الغفور الرحيم دخلت الكلمات القلوب وحفظها الملايين وقرأوها آلاف بل ملايين المرات يوميا.. فهي الوثيقة المعجزة التي عاشت وستعيش في قلوب وعقول وضمائر الملايين. يقول الحق سبحانه وتعالي: ألف لا م ميم. ذلك الكتاب لاريب فيه هدي للناس والمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك علي هدي من ربهم وألئك هم المفلحون. صدق الله العليم. ومازال الحديث متواصلا