نحن نطالب، منذ مائتى عام، بتجديد الخطاب الدينى ولا سميع ولا مجيب حتى الآن. والألمان والأوروبيون عامة يحتفلون هذه الأيام بالذكرى الخمسمائة لنجاح مارتن لوثر فى ثورته على الكنيسة الكاثوليكية ودعوته لتجديد الخطاب الدينى المسيحي. وأنا أكتب هذه المقالة من باريس وقد صدرت الصحف والمجلات المتخصصة وغير المتخصصة ومارتن لوثر وحركة الإصلاح الدينى والكنيسة البروتستانتية موضوع الغلاف، وأنجيلا ميركل رئيسة حكومة ألمانيا تشد الرحال إلى وتنبرج حيث أعلن مارتن لوثر اعتراضاته على متاجرة الكنيسة الكاثوليكية بصكوك الغفران، وتلقى خطابا تشارك به فى الاحتفالات وتدين فيه التعصب الدينى وتعلى من قيمة التسامح وتدعو لحياة إنسانية مشتركة لا يعكر صفوها التعدد والاختلاف. وفى اعتقادى أن مارتن لوثر يستحق أن نهتم به نحن المصريين أيضا على اختلاف معتقداتنا لأن الدوافع التى أملت عليه دعوته التى قامت على أساسها الكنيسة البروتستانتية هى الدوافع التى تملى علينا دعوتنا لتجديد خطابنا الديني. لقد ثار مارتن لوثر على الكنيسة الكاثوليكية، لأنها كانت تتاجر بالدين وتخلطه بالسياسة، وكانت تنحاز للأمراء والملوك الطغاة وتعتبرهم ظلالا لله على الأرض، ولأنها كانت تحارب العلم وتصادر حرية التفكير والتعبير وترفض كل فكرة أو رأى أو اكتشاف يخالف ما جاء فى التوراة والانجيل، وكانت تزعم أن كل ما يحتاج إليه البشر فى دنياهم وآخرتهم مذكور فى هذه الكتب الدينية فهم ليسوا بحاجة لعلم جديد أو اكتشاف جديد ولو كانت فيه حياتهم ونجاتهم من الجهل والتخلف والجوع والانقراض.ونحن نعرف ما صنعته الكنيسة الكاثوليكية مع كوبرنيك، ومع جاليليو، ومع جوردانو برونو ومع سواهم من الفلاسفة والسياسيين وعلماء الفلك وعلماء الطبيعة والأطباء والمؤرخين. وكما صنعت الكنيسة الكاثوليكية مع هؤلاء صنعنا نحن أيضا مع المنصور الحلاج، ومع السهروردى المقتول، وابن رشد، وابن عربي، ولانزال نصنع مع حلفائهم من أمثال منصور فهمي، وعلى عبدالرازق، وطه حسين، وفرج فودة، ونجيب محفوظ، ونصر حامد أبوزيد، وإسلام بحيري. وكما كان رجال الكنيسة الكاثوليكية يزعمون أن قوانين الطبيعة والفلك وحوادث التاريخ مسجلة كلها فى التوراة والانجيل منذ بدء الخليقة ظهر عندنا من يزعمون هذا الزعم من أمثال مصطفى محمود وزغلول النجار. وإذا كان رجال الدين فى العصور الوسطى قد احتكروا السلطة واحتكروا العلم بكل فروعه ومجالاته فهم المرجع فى الماضى والحاضر وفى السماء والأرض، وفى الدنيا والآخرة فقد اختلف الأمر فى عصر النهضة الذى استطاع فيه جاليليو أن يرى جبال القمر بالتلسكوب الذى صنعه ويثبت أن الأرض كروية وأنها هى التى تدور حول الشمس، كما تدور حول نفسها، واستطاع كريستوفر كولومبس أن يكتشف أمريكا التى لم يرد لها ولا لما فيها ومن فيها ذكر فى أى نص دينى، إذا كان هذا قد حدث فقد أصبح كلام رجال الدين فى السياسة والتاريخ والجغرافيا والطب والفلك مشكوكا فيه وأصبحت معارضتهم ممكنة. وهذا ما حدث فى أوروبا فى عصر نهضتها وما حدث عندنا فى نهضتنا الحديثة التى انفصلنا فيها عن سلطنة العثمانيين الدينية، واستعدنا استقلالنا الوطني، وتعرفنا على علوم العصر، وعلى الديمقراطية، وعلى حقوق الإنسان، وعلى مارتن لوثر.. لكننا لم ننجح حتى الآن فى تجديد خطابنا الدينى كما نجح مارتن لوثر الذى يحتفل العالم هذا الشهر بالذكرى الخمسمائة لقيام حركته. كيف تعرفنا على مارتن لوثر؟ فى «تخليص الا بريز فى تلخيص باريز» يقول الطهطاوى وهو يتحدث عن دين أهل باريس: «ان دين الدولة هو دين النصارى القاثوليقية» ولكنه يستدرك فيقول «وقد بطل هذا الشرط بعد الفتنة الأخيرة» أى أن هذه المادة التى كانت موجودة فى الدستور السابق على ثورة 1830 أسقطت من الدستور الذى صدر بعدها. ثم يواصل الطهطاوى فيقول «وهم يعترفون للبابا الذى هو ملك روما بأنه عظيم النصارى وكبير ملتهم» لاحظ هنا أن الطهطاوى يسمى البابا ملكا، للآن الخلط بين السلطتين كان لايزال قائما فى ذلك الوقت.. ويضيف الطهطاوى «وكما أن الدين القاثوليقى هو دين الدولة الفرنساوية كذلك هو دين غالب الناس عندهم. وقد يوجد بباريس الملة النصرانية المسماة البروتستانتية وغيرها». وفى كتيب للدكتور نعيم اليافى عن «حركة الإصلاح الدينى فى عصر النهضة» يتحدث عن المؤثرات التى كانت وراء حركة الإصلاح الدينى عندنا ومنها المؤثرات الأجنبية، فيذكر مبادئ الثورة الفرنسية وما أحدثته فى النفوس من هزة وانفعال، ثم ينتقل إلى الإصلاح الدينى البروتستانتى فيقول انها الحركة «التى قادها لوثر فى وقت مبكر واطلع عليها الأفغانى وغير الأفغاني، وحاول أن يتمثلها ويحذو حذوها. وإذا ما أغفلنا جوانب كثيرة من التباين بين الحركتين، حركة الإصلاح الإسلامى وحركة الإصلاح البروتستانتى فإن الإطار العام الذى عملت فيه الحركتان يكاد يكون واحدا، فكيف إذا أضفنا إليه اطلاع أصحابنا عليه واعجابهم به وبأطروحات صاحبه؟». وهو يوضح فى الهامش ما قاله عن إعجاب زعماء الإصلاح الإسلامى بلوثر فيقول «ان رشيد رضا تلميذ محمد عبده يشيد فى مقالة نشرها عام 1899 بالرجل العظيم وإمام المصلحين. وكان الأفغانى قبله قد اعجب به وبحركته وتطلع إلى أن يقوم فى دار الإسلام بما قام به هو فى دار الغرب». وقد تحدث عن الصلة بين حركة الإصلاح الإسلامى وحركة الإصلاح البروتستانتى باحثون آخرون منهم على سبيل المثال عبدالله حنا الذى قارن فى كتابه «التجديد الإسلامى فى عصر النهضة» بين الحركتين. وهنا قد يعترض بعضنا فيقولون ان الإسلام ليس فيه سلطة دينية. فكيف نقارن بين البروتستانتية التى قامت ضد الكنيسة الكاثوليكية وحركة الإصلاح الدينى الإسلامية التى لم تواجه مثل هذه السلطة الدينية؟ وهو سؤال فى محله لكن المساحة لم تعد تتسع للإجابة عنه فإلى المقال المقبل حيث نجيب عليه وعلى غيره مما يتصل بهذا الموضوع. لمزيد من مقالات أحمد عبدالمعطى حجازى