الرئيس الراحل قال لحافظ الاسد : " دعنا نلعب سياسة ..أنا سأعلن زيارة القدس وانت تعارضها 40 عاما مرت على إعلان الرئيس السادات فى خطابه الشهير فى 9 نوفمبر عام 1977 أمام مجلس الشعب أنه مستعد لأن يذهب إلى أقصى مكان فى العالم حتى لو كان القدس من أجل الصلح أو السلام مع إسرائيل. نظر البعض لهذه المبادرة على أنها تحول استراتيجى فى سياسة مصر الخارجية قد يترتب عليه إخراجها من معادلة الصراع العربى الإسرائيلى، ونظر لها البعض الآخر على أنها خطوة تكتيكية وفترة راحة بعد حرب وأزمة اقتصادية تمر بها البلد، وخوفا من تحرك إسرائيلى قد لا نكون مستعدين له، ويكون من نتائجه خسارة الانتصار الذى حققناه، وما بين مؤيد ومعارض وجدل لم يتوقف على مدى 40 عاما حتى اليوم، يأتى هذا الحوار المليء بالحقائق والأسرار.. يكشفها لنا محمد عبدالجواد الرئيس الأسبق لوكالة أنباء الشرق الأوسط الذى كان قريبا من الرئيس الراحل أنور السادات فى كل الجولات التى قام بها قبل سفره إلى القدس، والرسالة التى حملها له من رئيس تحرير جريدة «الجيروزاليم بوست» الإسرائيلية، التى كانت نقطة البداية لمبادرة السلام التى قام بها السادات. فى هذا الحوار الخاص ل «الأهرام» يكشف محمد عبدالجواد أن السلام لم يكن مجرد رغبة حقيقية من الرئيس السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلى مناحم بيجين فقط، لكنه كان أيضا رغبة معظم الزعماء العرب الذين باركوه وأيدوه. بل إنهم كانوا على علم بما يخطط له الرئيس السادات لكنهم أنكروا جميعا معرفتهم فيما بعد، إلا أن السادات واجه بشجاعة وتحمل انقلاب العرب عليه وتخليهم عنه وقرر ونفذ ما يراه فى مصلحة وطنه وشعبه والمنطقة العربية. وإلى نص الحوار.... ................................... لماذا أصر السادات على تنفيذ مبادرة السلام وسط رفض عربى كبير وصل إلى حد مقاطعة عشر دول لمصر؟ - في مارس 1977 كنت مع الرئيس السادات فى رحلة لمدينة سالزبرج النمساوية. كانت رحلة للراحة والاستجمام، دعانا أنا وموسى صبرى ومحسن محمد وعلى حمدى الجمال وقال لنا: «أنا قرفان وحزين، لى 4 سنين بعد حرب 73 بألف على العرب واحد واحد أطلب منهم يشتروا لنا سلاح عن طريقهم لكنهم رفضوا، وقالوا فى الكويت الشحات حضر، ومش عارف أعمل إيه، البلد مافيهاش فلوس، والجيش مفيش سلاح، حتى الروس رفضوا مدنا بالسلاح، وعلى الجانب الآخر إسرائيل بدأت تستعيد قواها وتسلح جيشها بمساندة أمريكا، أنا خايف على النصر اللى حققناه فى حرب 73، وأخشى ما أخشاه أن تهاجمنا إسرائيل مرة أخرى ويضيع النصر».. ويومها بدأ الرئيس السادات التفكير جديا فى السفر إلى القدس. أتذكر جيدا كلمة الرئيس السادات عندما تحدث مع الرئيس حافظ الأسد فى دمشق، قال له السادات: «حافظ.. دعنا نلعب سياسة، لقد كنت شريكا معنا فى الحرب والانتصار، وما حدث فى حرب 73 كان شيئا عظيما، لكن فى الحقيقة إننا لم نكن نحارب إسرائيل، نحن كنا نحارب أمريكا، ونحن لا نمتلك إمكانيات الحرب مع أمريكا».. وقد أيد حافظ الأسد كلام السادات . ذكر الكاتب «إيرى إيراك» رئيس تحرير صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية فى كتاب له أنك كنت وراء هذه الزيارة التاريخية ؟ - هذه حقيقة وقد كان ل «إيرى إيراك» دور فيها.. ففى يناير سنه 1977 دعيت لحضور مؤتمر إعلامى بأمريكا وهناك تعرفت على رئيس ما يعرف بالهيئة الدولية للصحافة الحرة وأخبرنى بوجود مؤتمر لهم فى أوسلو سيحضره عدد كبير من الصحفيين من أنحاء العالم ووافقت وذهبت وخلال حفل الاستقبال فوجئت بشخص يعرفنى بنفسه قائلا « أنا إيرى إيراك رئيس تحرير جيروزاليم بوست الاسرائيلية» ثم طلب مقابلتى بعدها. شعرت بقلق شديد فلم أتخيل فى حياتى أننى أصافح إسرائيليا، فما بالك باللقاء معه، شعرت بحيرة شديدة وترددت فى البداية من لقائه، لكن بعد مرور ثلاثة أيام كنت قد قابلت خلالها أكثر من خمسين صحفيا من أنحاء العالم، وكل من أقابله يسألنى: «هل التقيت إيرى إيراك؟» وأقول له لا لم أقابله. فشعرت وقتها بأن هذا المؤتمر عقد لهذا الغرض. فى اليوم الأخير وكان يوم الخميس التقيت ايرى ايراك فى غرفتى فى حوالى الساعة التاسعة قبل سفرى فى ذلك اليوم. فى بداية حديثى معه قلت له: «اسمع.. لو خرجت بعد هذا اللقاء لتقول فى وسائل الإعلام انك التقيت بى وصدرت الأكاذيب كعادتكم سوف أكذبك».. قال لي: «لا لن أقول شيئا، أنا هنا لمقابلتك فى مهمة رسمية مكلف بها من مناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل الجديد، وأرجو تبليغها للرئيس أنور السادات»، وقبل ذلك سألنى عما إذا كان السادات جادا فى مبادرة السلام، فأكدت له هذا بكل ما يمكن تأكيده، فقال: «الرئيس بيجين يبلغه أنه على أتم استعداد لمقابلته»، مؤكدا أن بيجين هو الشخص الأقدر على إتمام هذة المهمة الكبيرة لأنه شخص قوى وحائز على أغلبية فى البرلمان منذ فترة كبيرة. فإذا كان الرئيس السادات جادا فإن بيجين على أتم الاستعداد . غادر إيراك غرفتى ورجعت أنا إلى القاهرة فى تمام الساعة الخامسة مساء، وكان الوقت غير مناسب للقاء الرئيس لأبلغه بهذه الرسالة فاتصلت بالسيد ممدوح سالم رئيس الوزراء وقلت له: «أنا مرعوب»، وأبلغته بما حدث، فقال: «هذا الكلام خطير» .وطلب منى كتابة ما دار بينى وبين الصحفى الاسرائيلى، وبالفعل كتبت وأرسلت له ما كتبت، وهو بدوره أبلغه للرئيس السادات. كان هذا الكلام يوم الخميس، ويوم السبت سافرت مع الرئيس السادات إلى الرياض وكنت معه بمفردى فى الطائرة. استدعانى فى كابينة الرئاسة، وقال لى: «أنت يا محمد كنت مرعوب؟»، قلت له: «نعم»، فضحك وقال لي: «من الآن فصاعدا نحن نقابل أى حد أيا من كان، نحن على حق ولا يهمنا أى حد».. ثم قال: «الكلام الذى أرسلته لى كلام مهم قوى واعتقد أن هذا الكلام سيكون له آثار مهمة ستعرفها قريبا». لقاءات الغرف المغلقة فى سبتمبر سافر السادات إلى بوخارست عاصمة رومانيا لمقابلة شاوشيسكو رئيس رومانيا والمعروف بقربه الشديد من بيجين ومن إسرائيل. كان الظاهر أنها محادثات عادية بين الرئيسين على مدى ثلاثة أيام صدر بعدها بيان مقتضب، لكن عندما ركبنا الطائرة قال لنا السادات: «يا ولاد مش بيجين طلع اللى بيقوله فى الغرف المغلقة غير الذى يقوله فى العلن؟.. ده معناه أن بيجين فى العلن يعمل بطل وفى الخفاء يطلب مقابلتى»، قال السادات ذلك ضاحكا، ثم قال موجها كلامه لى: «مش كده يا محمد ولا إيه؟!». حاول الزملاء الصحفيون الموجودون معنا على الطائرة أن يعرفوا قصد الرئيس من الكلام، لكن طبعا أنا رفضت أن أخبرهم أن كلامه قد يتعلق بما دار بينه وبين شاوشيسكو المعروف بصداقته لبيجين . سافرنا بعد ذلك إلى طهران وعلمت بما لا يقبل الشك أن الرئيس السادات أبلغ شاه إيران بأنه تم الاتفاق بينه وبين شاوشيسكو للترتيب لزيارة إسرائيل.. وبطريقة غير مباشرة ألمحت للرئيس السادات أن رسالة ايرى ايراك ربما كان لها دور فى التمهيد لهذه الرحلة، فقال لي: «برافو محمد» . هل صحيح أن مبادرة السادات وزيارة القدس كانت مفاجئة للحكام العرب؟ - هذا الكلام غير حقيقى جملة وتفصيلا.. الحكام العرب جميعهم كانوا على علم بما يخطط له السادات وكانوا يباركونه كما أن شاه إيران بارك الخطوة وشجعها من البداية واتصل هو بنفسه ببيجين فقد كانت علاقته به قوية فى ذلك الوقت. ثم سافرنا الى الرياض واجتمع السادات بالقيادة السياسية مجتمعين وابلغهم بتفاصيل رحلته إلى القدس وقالوا له على بركة الله نحن نؤيدك, ثم سافر بعد ذلك إلى سوريا وهى كانت شريكا لنا فى الحرب والتقى بالرئيس حافظ الأسد فى اجتماع مطول وقال له: «دعنا نلعب سياسة أنا سأعلن فى مؤتمر صحفى بعد قليل أننى سأذهب إلى القدس وأنت تعلن انك معارض».. على الجانب الآخر كنت أنا وزملائى ومعنا كل الوزراء السوريين المعنيين وكبار رجال الإعلام مؤيدين لهذه الخطوة وقال معظمهم كفانا حروبا ودمارا . وبالفعل أعلن السادات أنه سيسافر إلى القدس ليضع إسرائيل والعالم كله أمام الأمر الواقع ويفضح إسرائيل إذا تقاعست عن تنفيذ مبادرة السلام التى دعا لها وكان الهدف منها استرداد جميع الأراضى المغتصبة فى عام 67 سواء الأراضى السورية أو الفلسطينية، وللأسف لم نكد نصل إلى قبرص وإذا بحافظ الأسد يعلن أن السادات خائن وأنه قد خرج عن رأى الأمة العربية، وكان أخطر ما علمناه من الرئيس السادات شخصيا بعد عودتنا إلى مصر أن حزب البعث كان قد خطط للقبض على الرئيس واحتجازه هو من معه فى دمشق لمنعه من السفر للقدس، لكنهم تدارسوا الأمر ووجدوا صعوبة فى تنفيذ ذلك فقرروا ضرب طائرة السادات فوق جزيرة قبرص، وقد بلغ هذا الخبر المسئولين الأمريكان فضمنوا سلامه السادات سواء فى دمشق أو فى الطائرة حتى وصوله إلى مصر، ونحن فى طريق العودة أبلغنا الرئيس بأن يوم السبت هو موعد رحلتنا إلى القدس وقال لنا مازحا: «اللى خايف ييجى معاى هو فى حل»، طبعا الكل قال له نحن معك يا ريس. وكيف كان موقف الرئيس ياسر عرفات؟ - لم يكن ياسر عرفات مصدقا أن السادات من الممكن أن يذهب إلى إسرائيل وفى اليوم الذى ألقى الرئيس السادات الخطبة الشهيرة فى مجلس الشعب يوم 9 نوفمبر وقف ياسر عرفات يصفق لمدة عشر دقائق، أما الرئيس صدام حسين فقد كان على خلاف مع السادات، ولم يكن على اتصال به لذا فقد اجتمع بالرؤساء العرب فى بغداد وقال لهم: «أى واحد سيوافق على ما فعله السادات يتأكد إنه سيقتل حتى فى غرفه نومه».. حتى الملك حسين الذى كان له دور كبير فى المقابلات التى تمت مع موشى ديان ومبعوثى السادات قبل رحلة القدس، قابلنا مقابلة سيئة عندما رجعنا من كامب ديفيد . ترتيبات الرحلة ما هى الترتيبات الرسمية التى تمت للزيارة ومن هم القائمون عليها أو المنسقون لها؟ الأمريكان هم من قاموا بعمل كل الترتيبات اللازمة، فقد تلقى الرئيس السادات رسالة رسمية عن طريق السفير الأمريكى فى القاهرة بأن إسرائيل ترحب به وسيتم استقباله استقبالا رسميا.. ومن مطار أبو صوير أقلعت الطائرة متجهة إلى القدس وكان السادات فى أزهى حالات الانشراح، فقد انتهز فرصة وجود أشهر مذيع ومذيعة أمريكيين ودعاهما للسفر معه إلى القدس وظل لمدة نصف ساعة هى مدة الرحلة يدلى بأحاديث تلفزيونية تحدث فيها عن السلام وضرورة تحقيقه الفعلى فى المنطقة . وبعد حوالى 10 دقائق من إقلاعنا لاحظنا تحليق أربعطائرات فانتوم تحيط بنا من جميع الاتجاهات ترافقنا خطوة بخطوة فلم يكن غرضها الترحيب بنا لكن كان الإسرائيليون غير واثقين فى السادات وكان عندهم هاجس إن السادات يدبر لهم خدعه وانه أرسل قوات لقتل قادة الجيش الذين سيكونون فى استقباله فى المطار، وأكثر من ذلك فقد علمنا أيضا أنهم جهزوا عددا كبيرا من القوات والقناصة على أسطح المبانى المجاورة للمطار تحسبا لأى غدر. وصل الرئيس والوفد المرافق له مطار بن جوريون ووجدوا جميع المسئولين الإسرائيليين مصطفين لاستقباله، سلم عليهم ضاحكا ومداعبا حتى وصل إلى جولدا مائير فقالت له ضاحكة: «لست عجوزا سيادة الرئيس». كيف كان استقبال بيجين للسادات ؟ - فى البداية كان بيجين يتحدث بنفس لهجة الشك وعدم الثقة فى نوايا السادات وفى اعتقاده أن الزيارة ما هى إلا خدعه ومراوغه منه، لكن بعض معاونى بيجين أكدوا له أن السادات جاد فى رغبته فى السلام، فجاء فى اليوم التالى مبتهجا ومبتسما وكان لقاؤه مع السادات جيدا . كيف كان انطباع الرئيس السادات عن زيارته لإسرائيل أثناء رحلة العودة من القدس ؟ - قال بالحرف الواحد: «أنا ضربت إسفين شديد فى إسرائيل، لن تعود إسرائيل كما كانت قبل هذه الزيارة، سوف يكون فى إسرائيل أناس تكره الحرب وتتمنى السلام»، ولو أن العرب استمعوا لنصيحة السادات لكان الأمر قد اختلف تماما وكانت نبوءة السادات تحققت بحيث يعود اليهود المصريون إلى مصر، وبقية اليهود الاسرائيليين سيرجعون إلى حيث كانوا، وسيصبح اليهود الموجودون فى فلسطين مجرد جالية يهودية، ولو تكاتف العرب مع السادات لكان قد حدث هذا!. يرى البعض أن أحلام السادات فى تحرير الأرض وتحقيق السلام هى حبر على ورق.. ويقولون إنه لا أرض الجولان أو فلسطين قد استعيدت وحتى سيناء تسلمناها منقوصة السيادة.. كيف ترى ذلك؟ - هذا الكلام غير حقيقى فقد كانت نتائج زيارة السادات للقدس هى توقيع إتفاقية كامب ديفيد عام 1978 وذلك بعد 12 يوما من المفاوضات فى كامب ديفيد.. استعدنا فيها سيناء.. ولو كان القدر قد أمهل السادات كانت خريطة الوطن العربى تغيرت تماما .