قد تمضى ألف سنة دون أن تتوصل أجهزة التحقيق الأمريكية إلى الأسباب التى دفعت مواطنا فى الرابعة والستين من عمره أن يطل من الطابق الثانى والثلاثين بشرفة فندق فى أشهر مدن القمار فى العالم، ويطلق الرصاص عشوائيا على أبرياء جاءوا يستمتعون بالموسيقى الشعبية فى الهواء الطلق، فيسفك دماء 58 إنسانا فى لحظة ويصيب ثلاثمائة اخرين ويتسبب فى فزع نفسى لأكثر من ألف شخص، قد يعانى بعضهم كوابيس وهلاوس واضطرابات نفسية لفترة طويلة..والسبب أن الفاعل نفسه قد عثرت عليه الشرطة منتحرا فى حجرته وبجواره 19 بندقية ومسدسا وكمية هائلة من الذخيرة، أى رحل وأخذ سره معه! ويبدو أن هذا الغموض الذى يلف أكبر مذبحة إجرامية فى تاريخ الولاياتالمتحدة، هو الذى شجع «داعش» على أن ترفرف براياتها السوداء، وتدس بأنفها فى الجريمة، معلنة أن المجرم الغامض هو احد «مجاهديها». ويمكن أن نصف إعلان داعش «بالغباء المطلق»، لأن القاتل «ستيفن كريج بادوك» مرتكب المذبحة الرهيبة فى لاس فيجاس لا يمكن أن يكون «مجاهدا» حسب مواصفات داعش، فهو مدمن قمار، يهوى الأسلحة النارية والصيد إلى درجة الهوس، يشرب الخمر، يبلغ من العمر 64 عاما، وهو عمر لا يسمح له بالتراجع عن معتقداته والإبحار إلى دين جديد، لأن الانتقال من دين إلى دين أشبه برحلة سفر فى الفضاء، تحتاج إلى طاقة داخلية هائلة لم يعد يملكها، فكيف أسلم «بادوك» قبل شهور فى السر، وفجأة تتلبسه فكرة «الجهاد القاتل»! بالفعل نفت كل أجهزة الأمن الأمريكية «كلام داعش» الأهوج الذى جاء للصيد فى الماء العكر، وكالعادة خرج الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بلغته المتفردة كأنه يتحدث عن حرب كونية، فوصف الجريمة بأنها عمل من الشر الخالص، و«لن يبعثر الشر وحدتنا، ولن يمزق العنف روابطنا». وقد تزوج وهو فى الثلاثة والثلاثين من عمره، ولم يدم زواجه إلا ست سنوات فقط، وتعيش مطلقته فى لوس انجلوس ولا تعرف عنه شيئا من 27 سنة، لأنهما لم ينجبا أطفالا يربطونهما معا. ويسكن بادوك فى مدينة «مسكيت» الصغيرة على حدود ولاية أريزونا، وأحواله المالية ميسرة، ويتردد بانتظام على لاس فيجاس ليلعب القمار. وتعيش أمه فى مدينة ميرلاند بولاية فلوريدا بجانب أخيه أريك الأصغر، الذى عبر عن صدمته وعدم قدرته على تصديق الجريمة. لكن الأب بنيامين باتريك بادوك له سجل حافل بالمتاعب، فقد أدين فى حوادث سرقة منظمة للبنوك فى عام 1961، وحُبس وفر من السجن، واعتبرته المباحث الفيدرالية من أخطر عشرة مطلوبين للعدالة طول فترة السبعينيات.. فهل ورث الابن بعضا من جينات أبيه ولم تطفح عليه إلا بعد الرابعة والستين؟ سؤال محير تصعب الإجابة عنه.. لكن ستيفن جريج بادوك ليس أول القتلة الجماعيين ولن يكون آخرهم، فالقتل الجماعى ليس غريبا على المجتمع الأمريكي، ربما ضخامة أعداد الضحايا هى التى صنعت كل هذا الهلع والتساؤلات عنه، فقبل عامين، وعلى سبيل المثال، وقعت جريمتان فى يومين متتاليين من شهر يونيو 2015، واحدة فى مدينة تشارلستون فى ولاية ميتشجان، قتل فيها تسعة مصلين فى كنيسة شهيرة للأمريكيين من أصل إفريقى، والثانية فى شوارع فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا واطلق فيها شاب الرصاص عشوائيا على المارة فى الشارع فسقط 10 أشخاص بين الحياة والموت، ونشرت جريدة «يو أس تودي» تقريرا وقتها قالت فيه: «إن المعدل القومى لعمليات القتل الجماعى هو جريمة كل أسبوعين، وأن ما يربو على 200 مذبحة وقعت فى السنوات التسع الأخيرة». وقبل أربعة أسابيع تقريبا من هاتين الجريمتين ، حدث تصادم عنيف فى مطعم بطريق ريفى على مشارف مدينة واكو بولاية تكساس، بين عصابات راكبى الدرجات البخارية، تطايرت فيه الرصاصات، فسقط فى أقل من دقيقتين 27 قتيلا ومصابا، وهرعت الشرطة إلى المكان وتبادلت إطلاق النار، وقبضت على 177 متهما، وضبطت 300 سلاح منها رشاش كلاشينكوف «ايه كيه 47»، قدرته 600 طلقة فى الدقيقة ، أى عشر طلقات فى الثانية الواحدة. وحاولت جريدة «يو أس توداي» أن تجد تفسرا لهذا العنف ودوافعه وتلقى الضوء على المنطقة المعتمة فى وجدان هؤلاء «القتلة»، فأرجعت الأسباب إلى اكتئاب حاد، وانفصام فى الشخصية، وهلاوس مقرونة بكوابيس مرعبة، واضطراب عقلي. وقطعا لا يخلو مجتمع من جرائم « قتل جماعي»، صحيح أن العنف مثل أى كائن يعيش وينمو إذا توافرت له بيئة فاسدة وأسباب دائمة، وعلى العكس يخبو ويتقلص ويعيش على التنفس الصناعى لو حرمناه من هذه البيئة ، لكنه لا يموت ابدا، لأن العنف جزء من طبيعة البشر، فمن علم قابيل أن يقتل أخاه دون أن يرى دشا أو أفلام رعب أو بلطجة أو غلاء معيشة أو عقدا نفسية أو تحريضا من أصدقاء السوء أو ينضم إلى عصابة من راكبى الدراجات النارية أو يمتلك رشاشا آليا؟ وإذا عدنا الى أكبر مذبحة فى تاريخ الولاياتالمتحدة قبل عملية بادوك، فسنجد أنها حدثت فى عام1927، ونفذها أندرو كاهو، لأسباب تبدو غير منطقية، فأندرو كان عضوا فى مجلس إدارة مدرسة باث فى ولاية ميتشجان، وانتابته حالة غضب عارم من قانون أصدرته الولاية، يفرض ضريبة مبان لتمويل انشاءات جديدة بالمدرسة، فأخذ قنبلة معه إلى المدرسة فى صباح اليوم التالى وفجرها وسط الطلبة والمدرسين والإدارة ليقتل 45 شخصا هو منهم بالطبع و يصيب 58 آخرين. منتهى الجنون ومنتهى العبث، أى تبدو جريمة بلا دوافع شخصية ضاغطة، مثل الجرائم التى يرتكبها أشخاص يتصورون أنفسهم ملائكة منتقمين فيتلبسهم دور المخلص الذى سينقذ البشرية من الشر والضلال والظلم، أو مبعوث السماء لإنزال العقاب بكل من خانوا عهد الله وأغرقوا انفسهم فى الرذيلة، فيقتلون فتيات ليل أو سيدات منحرفات باسم الدفاع عن الفضيلة وقد أنتجت السينما عشرات الأفلام بعضها واقعى تماما مثل سفاح بوسطن وقاتل تكساس، وبعضها فانتازيا والسؤال الذى يفرض نفسه: هل ثمة سمات مشتركة بين القتلة تفيدنا فى التفسير؟ علماء الجريمة يقولون إن بعض الناس يحملون جينات غير طبيعية، وعندما يكبرون يصبحون خطرا شديدا على المجتمع لكن ليس جميعهم من مرتكبى العنف، وأيضا هناك من يعانون نشاطا مفرطا فى بعض أنحاء المخ ، وهم يميلون إلى الجرائم العنيفة لكن البعض لا يفعلها، وليست هناك قاعدة صارمة تحدد كيف يتحول المضطرب جينيا أو صاحب النشاط الكبير فى دماغه إلى العنف ضد الآخرين، لكن من المؤكد أنه يحتاج إلى عناصر تتراكم وتزيد من فرص طفو العنف المخبوء فى الأعماق.