فى نهاية أيام حركة الغضب الذى عشناه بعد الخامس والعشرين من يناير؛ كان انتباهى الخاص مركزا فى ثلاث حقائق كانت واضحة أمام عيونى لا لأنى قارئ كف الوطن، ولكن لأنى عشت محذرا من حالة الترهل الجسيم الذى أصاب الخريطة المصرية فى سنوات ما بعد انتصار السادس من اكتوبر العظيم. وجرى الواقع مسرعا إلى ترهل ظاهر بدءا من الإنفتاح السداح مداح مرورا برحلة تمكين هادئة ثم مسرعة لتيارات التأسلم السياسى بدعوى أن شعار «الله أكبر» هو الذى صنع النصر العظيم، متجاهلين أن السماء لا تمطر انتصارات ولكنها تتوج جهود البشر بنتائج اعمالهم؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ لم يكن جهد رئيس الأركان سعد الشاذلى قبل حرب أكتوبر ساقطا من حسابات السماء عندما وفقتنا إلى النصر المغزول برؤية عبد الغنى الجمسى فى دراسة تيارات المياه بالقناة كى يكون العبور اقل صعوبة؛ فضلا عن بداهة إستخدام فكرة إذابة الرمال بمدفعية المياه المستفيدة من خبرة اللواء زكى باقى المهندس العظيم، بالإضافة إلى أن كل مقاتل قد تدرب على مهمته حتى صارت سلوكا تلقائيا فيما قابله من تفاصيل. وما أذكره الآن بكلمات بسيطة كان وراءه حياة مصرية يقف فيها من كل عائلة مصرية مقاتل قادر على أن يغزل النصر مع بقية زملائه. ثم بدأت رحلة ترهل هادئ ثم متسارع فوجدنا تمهيدا يشبه التمهيد النيرانى للاستسلام للترهل كأسلوب حياة. ولن أحكى عن تجفيف القطاع العام ودخول التعليم إلى لعبة إنفصال التحصيل الدراسى عن حقائق الواقع ، فإنطلق فيروس الدروس الخصوصية ليأكل أول ما يأكل كرامة المعلم، وصادف ذلك إغتيال السادات ثم إنتقال رجل فى قامة يوسف صبرى أبو طالب من عمله كمحافظ للعريش التى وضع لها وبمشاركة القبائل خطة تنمية تعتمد على تجويد التعليم وإستكشاف ما يصلح للأرض هناك من زراعات، وفور نقله من موقعه حتى بدا إهمال سيناء لترعى فيها جحافل السلفية، وعندما أتذكر تلك الحقائق فهى ابنة أفكار رجل تربى فى بوتقة الكرامة العلمية والعملية وهى بوتقة العسكرية المصرية؛ وهو ايضا من واجه بفهم عميق أساليب إحتيال شركات توظيف الأموال فلم يسمح لأى منها بالدخول فى مشروعات تخص محافظة القاهرة. ومثل يوسف صبرى أبو طالب هناك كثير ممن رفضوا توغلا لتلك الفيروسات المدعية للتأسلم فى الجسد المصرى على الرغم من امتصاصهم جزءا لا بأس به من مدخرات بسطاء البشر . حدث كل ذلك بينما كان المتأسلمون يتكاثرون بدعوة البشر إلى الغياب عن الواقع مع عجز أجهزة الدولة عن صناعة مسالك علمية وطبيعية لتطوير المجتمع. طبعا كان كل ذلك يجرى بينما شيمون بيريز أحد المؤسسين لدولة إسرائيل يعلن عن الشرق الاوسط الجديد، فهو أحد الآباء الشرعيين للعبة إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط . وكانت الولاياتالمتحدة تمد انف مدافعها وطائراتها مرة إلى العراق التى إبتلتها ظروفها بحاكم دموى المزاج هو صدام حسين الذى خاض حربا ضد إيران ذات الحكم الشيعي، فوضع اساسا لصراع مذهبى مقيت؛ ثم تبع ذلك بمحاولة احتلال الكويت، وبدأت فكرة القومية العربية فى التآكل، لتصحو نعرات مذهبية . كل ذلك ولا يلتفت قادة العرب إلى الهول الذى صنعوه لشعوبهم؛ هو عدم الإلتفات إلى مهمة تستكمل بها الأمة العربية ما بدأه المصريون فى انتصار أكتوبر المجيد، فلم يتجه المال العربى إلى خريطة الأحلام التى إنبثقت من نصر اكتوبر المجيد. وكان إقتصار الدور المصرى على الإستمرار فى الإنفتاح الكسول عن تنمية المجتمع كنسيج واحد فصعد نجم طبقة القطط السمان التى تحولت إلى حيتان تلتهم خيرات الوطن المصرى فإتسعت الفجوات بين فئات المجتمع لتذوب الطبقة الوسطى تحت سياط وكرابيج تجمع خيرات المجتمع المصرى فى يد حفنة قليلة وجدت فى نظام حسنى مبارك خير مناخ يساعدها على استنزاف ما بقى من القطاع العام؛ ولتتسع الهوة بين شعارات فضفاضة وبين واقع يئن من ضغوط الحياة اليومية، وكان هذا هو خير مناخ استثمرته جحافل التاسلم بداية من المعونات العينية من سكر وزيت وارز فى القرى ضعيفة القدرة على إشباع حاجات سكانها، ومرورا بفساد التعليم الذى لايؤهل الفرد إلى إكتشاف قدراته، بل هو حفظ وتلقين أو غش جماعى وتكدس الجامعات باعداد مهولة عاجزة عن إستيعاب ما تدرس فصار كثير من الكليات تقذف بخريجين لا يتقنون ما درسوا. فقد انفصل مضمون الشهادة الجامعية عن الشكل. ولذلك جاء إنفجار الخامس والعشرين من يناير لتمنح التأسلم فرصة سرقة إدارة المجتمع، وجاء محمد مرسى كمندوب احتلال عثمانى أمريكى منخفض التكاليف لدرة إفريقيا والشرق الأوسط ألا وهى مصر المحروسة. ثم تأتى الصحوة التى كشفت كل اوراق التآمر على مستقبل مصر؛ جاءت صحوة الثلاثين من يونيو لتقذف بتيار التأسلم من حالق. وكان الواقع مثخنا بجراحه يبحث عن خريطة امل لا تعرف الرضوخ للدول الكبرى وتحاول إيقاظ الضمير العربي، فكانت دولة الإمارات والسعودية ثم الكويت هى أول الدول التى قررت دعم مصر لتنتصب واقفة على أقدامها . بطبيعة الحال لم يغب عن قادة العرب الصادقين حقيقة عبث الإستعمار الجديد متمثلا فى بؤر ذات ثروة وضجيج مثل بؤرة قطر، ولم يغب عن قيادة مصر ابدأ انها الدولة القادرة على أن تصحو من جديد عبر مشاريع عملاقة يمكن ان تردم فجوة التخلف الشاسعة. ولم يغب عن جموع المصريين اهمية الإلتفاف حول القيادة الجديدة التى لم تغرقهم فى اوهام بل طلبت منهم التضحية رغم الظروف الصعبة. وقد قبل المصريون الدواء المرير من اجل إعادة صياغة نظام اقتصادى قادر على إشباع الحاجات الاساسية وقادر على أن يلحق مصر بقطار الأمل فى مستقبل مختلف غير مترنح بين إنتظار معونة او دعم خارجى . وهانحن نحاول غزل ثوب انتصار اجتماعى جديد نستكمل به انتصار اكتوبر. ولعل البداية هى محاولة تطوير التعليم كيلا ينتج إرقاما بشرية تحمل شهادات لا تعبر عن مضمون فعال ، بل بشرا قادرين على إبداع علمى وصناعى جاد. لمزيد من مقالات منير عامر